الضريبة الخفيّة على الخبز


2016-02-12    |   

الضريبة الخفيّة على الخبز

" فَقَالَ لَهُمْ : "عِنْدَمَا تُصَلُّونَ، قُولُوا: أَبَانَا الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ (…) خُبْزَنَا كَفَافَنَا أَعْطِنَا كُلَّ يَوْمٍ (…) وَلاَ تُدْخِلْنَا فِي تَجْرِبَةٍ لكِنْ نَجِّنَا مِنَ (الضريبة على خبزِنا الذي أعطيتنا إيّاه) " (الكتاب المقدّس، العهد الجديد، إنجيل لوقا، الإصحاح 11، الآيات 2 إلى 4).

منذ إقرار الضريبة على القيمة المُضافة (TVA) لعام 2001 وبدء تطبيقها عام 2002، اعتمد المشرّع درجتين لهذه الضريبة؛ فطبّق معدّل ال 10% كضريبة على مختلف السلع والخدمات الإقتصادية، فيما أعفى عدداً لا بأس به من السلع والخدمات الأساسية من هذه الضريبة، أي معدّل 0%.

وللوهلة الأولى، يظهر لقارئ غير إقتصادي لقانون الضريبة على القيمة المضافة أنّ اعتماد درجتين (10% و0%) للضريبة ينطوي على سعيٍ إقتصاديٍ وإجتماعيٍ لتحقيق العدالة الضريبية équité fiscaleبين المكلّفين وفق تصنيفٍ إجتماعيٍ لهم أو لتحفيز عمليات أو قطاعات معيّنة عبر إعفاء سلعها وخدماتها من الضريبة. إلّا أن القراءة الإقتصادية للقانون تُظهر انتفاء أيّة عدالة ضريبية في هذا الأخير كما تُظهر تعارضاً بين مضمونه وبين أبسط قواعد الإقتصادين العام والجزئي كتصنيف السلع المعفية أو معدّل ال 10% الموحدّ على مختلف السلع الخاضعة للضريبة.

لكنّ مسألة الضريبة على القيمة المضافة لا تقف عند هذا الحدّ، فالقراءة المعمّقة لقانون الضريبة المذكورة رقم 379/2001 وفهم ماهية الإعفاء وكيفية تحديد أسعار بعض السلع المعفية، تُظهران أنّ أهمّ السلع المعفية مبدئياً هي فعلياً خاضعة للضريبة على القيمة المضافة وأنّ المكلّفين دفعوا ويدفعون الTVAعلى خبزهم منذ إقرار قانون هذه الضريبةوحتى اليوم. 

1.     الخبز والإعفاء من الضريبة على القيمة المضافة

من منطلقٍ ماكرو-إقتصادي، أعفى المشرّع بعض العمليات الإقتصادية (التصدير والنقل الدولي)[1] من دفع الضريبة على القيمة المضافة. كما أعفى، في سعي ظاهر لتحقيق العدالة الضريبية-الإجتماعية، بعض الخدمات (الطب، التأمين، أنشطة الجمعيات…)[2] وعدداً من السلع الإقتصادية (الأساسية والغذائية)[3] من دفع هذه الضريبة. وبعيداً عن النقطة 4 من المادة 16 من قانون الضريبة المذكورة (رقم 379 الصادر في 14/12/2001)، التي شملت من ضمن الإعفاءات الخدمات المصرفية[4]، فقد أفرد المشرّع المادة 17 من القانون المذكور لذكر السلع الإقتصادية المعفية (أو الأموال والأشياء وفق التعبير القانوني)؛ هذه السلع تُصنّف إقتصادياً وفق نظرية المستهلك في الميكرو-إقتصاد في خانتين وذلك وفق مرونة طلب السلعة بالنسبة لدخل المستهلك[5]:

–        السلع العادية-الأولية ك"الخبز، الطحين، اللحوم والاسماك، الحليب والالبان ومشتقاتهما، الارز، البرغل، السكر، ملح الطعام، الزيوت النباتية، المعكرونة على اختلاف انواعها والمحضرات الغذائية المعدة لتغذية الاطفال" و"الغاز المعد للاستهلاك المنزلي" و""الادوية" (النقاط ب – ح – ه من المادة 17). هذه الفئة من السلع المعفية يرتفع استهلاكها بشكل عام مع ارتفاع دخل المستهلك ثم يستقرّ هذا الإستهلاك مع استمرار ارتفاع الدخل؛ فلا يمكن استهلاك المزيد من السلع العادية-الأولية، لا سيما الغذائية منها، من قبل المستهلك (أو العائلة) بعد إشباع حاجته(ها) من هذه السلع[6]، ما يدفع المستهلك (أو العائلة) إلى استهلاك أنواع أخرى من السلع تشبع الحاجات غير الأولية، يُصنّف بعضها كسلعٍ كماليةٍ[7]. وبالتالي فإن هذه السلع العادية-الأولية المعفية تعني كل الطبقات الإجتماعية لكنّها تشكل الحصّة الأكبر مما يستهلكه الفقراء عبر دخلهم، وأحيانا تشكّل كلّ دخلهم[8]؛ أي أنّ السياسات المالية والضريبية التي تطال هذه السلع، كالخبز مثلاً، تعني أولاً الفقراء قبل غيرهم من الفئات الإجتماعية.

–        السلع الكمالية biens de luxe ou biens supérieursك ""الاحجار الكريمة وشبه الكريمة، الاحجار الكريمة وشبه الكريمة، اللؤلؤ، الماس، الذهب والفضة ومعادن ثمينة اخرى" و "اليخوت والمراكب الاخرى وزوارق النزهة او الرياضة بطول يتجاوز 15 مترا …" (النقطتين ي و ل من المادة 17). هذه السلع المعفية لا تعني كل الطبقات بل فئة معينة من المجتمع.

بعيداً عن إعفاء بعض السلع الكمالية من الضريبة (يُمكن انتقاد هذا الإعفاء من ناحية الميكرو-إقتصاد والاستهلاك أو تبريره من ناحية الماكرو-إقتصاد والاستثمار وسوق العمل)[9] وبعيداً عن اعتماد درجة ضريبية واحدة لمختلف السلع غير المعفية، وما يشكلّه هذا الأمر من تعارضٍ مع نظريات الإستهلاك والعدالة الضريبية وإعادة توزيع الثروة (فالضريبية على علبة السردين أو زجاجة العصير أو سائر السلع المستهلكة من كافّة الطبقات، لا سيما الطبقة الفقيرة، هي 10% أما الضريبة على ثمار البحر والسيجار وسائر السلع المستهلكة من الطبقة الغنية هي 10% أيضاً)، فإنّ إعفاء المواد الأولية-الغذائية من ال TVA، لا سيما الخبز في المادة 17، ينطوي على سعيٍ إقتصاديٍ وإجتماعيٍ لتحقيق بعض العدالة الضريبيةوالإجتماعية، كون استهلاك هذه السلع يشكّل الجزء الأكبر من دخل الفقراء بحسب الشرح الوارد أعلاه. تُحدَّد دقائق تطبيق المادة 17، أي إعفاء الخبز من الضريبة، بموجب مراسيم تصدر بناء على اقتراح وزير المالية بحسب نص القانون 379/2001.

لكن عند التدقيق في مفردات النقطة –ب- السابق ذكرها من المادة 17 (القانون 379/2001) المكلّفة وزارة المالية بتنفيذها من جهة وعند معرفة كيف يتمّ تحديد سعر وطريقة بيع الخبز من قبل وزارة الإقتصاد والتجارة من جهة أخرى، يُصبح إعفاء الخبز من الضريبة على القيمة المضافة بحاجة إلى مزيد من التفصيل.

2.     ربطة الخبز واستيفاء الضريبة على القيمة المضافة

يُحدَّد سعر مبيع الخبز في لبنان بناءً على المرسوم الاشتراعي رقم 143 تاريخ 12/06/1959 وتعديلاته (نظام وصلاحيات مكتب الحبوب) بقرار يصدر عن وزير الإقتصاد والتجارة وذلك وفق المتغيرات العالمية والمحلية في أسعار القمح والمحروقات وغيرها من عوامل الإنتاج المشمولة في أكلاف صناعة الرغيف وبعد "التشاور" مع نقابة أصحاب الأفران؛ فيحدّد القرار الحدّ الأدنى للوزن المُباع إلى المستهلك النهائي من جهة والحدّ الأقصى لسعر مبيع الوزن السابق تحديده في القرار نفسه. على سبيل المثال لا الحصر، حُدِّد السعر الحالي للخبز بحسب المادّة الأولى من القرار الأخير لوزير الإقتصاد الذي حمل الرقم 5/ح ش في كانون الثاني 2016، وقد نصّت هذه المادة حرفياً على ما يلي : "(…) يحدد وزن ربطة الخبز ب 1000 غرام (…) كحد أدنى بسعر مبيع ألف وخمسماية ليرة لبنانية كحد أقصى (…)".

لكن بين إعفاء الخبز من الضريبة على القيمة المضافة في المادة 17 قانون الضريبة على القيمة المضافة من جهة، وبين تحديد سعر مبيع ربطة الخبز بناءً على المرسوم الإشتراعي الذي ينظِّم عمل مكتب الحبوب وقرارات وزير الإقتصاد من جهة أخرى، يكمن فارقٌ كبير.فربطة الخبز تتألف من أرغفة الخبز وكيس النايلون وربطة البلاستيك المستخدمة لإقفال الكيس.

بما أنّ قانون الضريبة على القيمة المضافة يشمل إعفاء الخبز من الضريبة (المادة 17 من القانون 379/2001: "الاموال والاشياء المعفاة من الضريبة: يعفى من الضريبة تسليم الاموال والاشياء التالية:أ- (…) ب- الخبز، الطحين،…")، وبما أنّ القانون نفسه لا يذكر في أية مادّة من مواده ال 63 إعفاء النايلون والبلاستيك من الضريبة المذكورة، وبما أنّ تحديد سعر المبيع هو تسعيرُ لربطة الخبز التي تشمل أرغفة الخبز (المعفية) والنايلون والبلاستيك (غير المعفيين)، وبما أنّه لا يمكن للمستهلك شراء الخبز إلّا عبر شراء كامل ربطة الخبز (الأرغفة والنايلون والبلاستيك)، فإنّ المستهلك يدفع ضريبة القيمة المضافة على ربطة الخبز حتى ولو كان الخبز معفياً. أي أنّ ال 1500 ل.ل. تشمل، من ضمن ما تشمل، الضريبة على القيمة المضافة التي تطال كيس النايلون وربطة البلاستيك كون هاتين المادتين غير معفيّتين من الضريبة المذكورة.

ختاماً، إنّ المسألة ليست في أنّ الضريبة على القيمة المضافة تطال الخبز اليومي للمستهلك، ففي كثير من الأنظمة الضريبية في العالم تطال الضريبة على القيمة المُضافة (في معدلها الأدنى) السلعة الأساسية في النظام الغذائي لهذا البلد (ال TVAهي 5.5% عل الخبز في فرنسا مثلاً)، بل إنّ استيفاء الضريبة على الخبز عبر تحديد وتوحيد أسلوب وكيفية بيعه من خلال "ربطة الخبز" يحمل في طيّاته إشكالية لها طابع ثنائي الأبعاد، قانوني وضريبي. قانوناً، إستيفاء الضريبة يحمل تجاوزاً لروحية قانون ال TVAوللسياسة التشريعية-الإجتماعية التي انتهجها المشرّع عندما أعفى السلع الأساسية التي يستهلكها المواطنون، لا سيما الفقراء، من الضريبة المذكورة وأوّلها الخبز. ضريبياً، استيفاء الضريبة على ربطة الخبز وإعفاء سلع أُخرى (أساسية-أولية وكمالية) غير الخبز يضرب العدالة الضريبية والبعد الإجتماعي للضريبة والتصنيف الإقتصادي-الإجتماعي للمكلّفين ونوعية استهلاكهم بحسب دخلهم، كون معدلّ الضريبة على القيمة المضافة الذي يطال ربطة خبز الفقراء يساوي معدّل الضريبة على كافيار الأغنياء.



[1] إعفاء الصادرات والنقل الدولي في المادتين 19 و20 من قانون الضريبة على القيمة المضافة رقم 379/2001.
[2] إعفاء بعض الخدمات في بعض نقاط المادة 16 من قانون الضريبة على القيمة المضافةرقم379/2001.
[3] إعفاء بعض السلع في بعض نقاط المادة 17 من قانون الضريبة على القيمة المضافة رقم 379/2001.
[4] إعفاء العمليات المصرفية يعود لأسباب مرتبطة بتكوين الأوليغارشية السياسية-المصرفية-الطائفية ومؤسسات الدولة وأساليب اتخاذ القرارات ومراكز النفوذ ومجموعات الضغط أو اللوبيينغ وأسباب أخرى بعيدة عن سياق المقال الحالي.
[5] مرونة الطلب بالنسبة للدخل (بتبسيط عاميّ vulgarisationوليس بشرح علمي إقتصادي) تقيس نسبة تغيّر الطلب على سلعة ما في حال تغيّر دخل المستهلك بنسبة 1%.
[6] أي أنّ المنحنى البياني لهذه السلع هو تصاعدي مع ميل تنازلي courbe d’Engel croissante à pente décroissanteوأمّا منفعتها الحدية فهي تنازلية utilité marginale décroissante.
[7] مع ارتفاع الدخل، إشباع الحاجات الأولية، انخفاض حصّة الإنفاق على السلع الأولية من دخل العائلة وارتفاع استهلاك السلع غير الأولية يرتفع في الآن عينه الميل الوسطي للإدخار propention moyenne à épargner
[8] يمكن أن يتخطّى الإنفاق على استهلاك السلع الأولية-العادية دخل الفقراء ما يُدخلهم في الديون كون هذه السلع الأساسية لا يمكن للمستهلك أن يستغني عنها كالخبز والماء مثلاً.
[9] يُمكن انتقاد إعفاء السلع الكمالية من ناحية الميكرو-إقتصاد وتحليله للاستهلاك وللسياسة الضريبية analyse microéconomique de la fiscalité et de la consommation، كون استهلاك بعض هذه السلع الكمالية يرتفع مع ارتفاع أسعارها وهو ما يُعرف في الميكرو-إقتصاد بسلع فبلن effet Veblen ou effet snobismeوفق مرونة طلب السلعة بالنسبة لسعرها élasticité de la demande par rapport au prix.إلّا أنّه يمكن تبرير هذا الإعفاء من ناحية الماكرو-إقتصاد والاستثمار وسوق العمل analyse macroéconomique de l’investissement et du marché de travail، فلو لا إعفاء اليخوت من هذه الضريبة لما كان بالإمكان، على سبيل المثال لا الحصر، إنشاء نادي اليخوت مع ما جلبه من استثمار وتوظيف لليد العاملة وما كان يمكن أن يجلبه من إيرادات ضريبية للخزينة العامة لو أحسنت الدولة إدارة ملف الأملاك البحرية بعقلية المنفعة الإقتصادية، هذه الإيرادات الضريبية يمكنها أن تتجاوز الإيرادات المُنتقصة الناجمة من إعفاء اليخوت من الضريبة على القيمة المضافة. 
انشر المقال

متوفر من خلال:

لبنان ، مقالات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني