سياسة “الأبواب المغلقة” نقيضاً لسياسة فتح الأبواب الفرنسية

،
2016-01-26    |   

سياسة “الأبواب المغلقة” نقيضاً لسياسة فتح الأبواب الفرنسية

مع تقدم نواب اللقاء الديمقراطي بطعن أمام المجلس الدستوري على قانون استعادة الجنسيّة على خلفية أنه ميّز ضدّ المتحدرين من أصول لبنانية الذين اختاروا جنسية إحدى الدول المنفصلة عن السلطنة العثمانية، استشعرت المفكرة القانونية وحملة جنسيتي حق لي ولأسرتي أنهما أمام ظرف تاريخي. ففي حين يحصر قانون إنشاء المجلس الدستوري حق الطعن في قانون معين بمرجعيات سياسية معينة، فإن الإجتهاد الدستوري الراسخ يفرض على المجلس فحص دستوريّة أحكام القانون كافة من دون الإكتفاء بما أثارته الجهة الطاعنة. وتالياً، تبعاً لهذا الطعن، انفتحت أمام المجلس الدستوري فرصة تاريخية لنقض أحكام القانون التي ميزت بشكل جلي ضد النساء. وإنطلاقاً من ذلك، أعدّت الجمعيّتان مذكرة تطلب من المجلس الدستوري إبطال القانون على خلفية التمييز بين الجنسين. إلا أن المجلس رفض في 22-12-2015 استلامها بحجة أن أصول المحاكمات المعمول بها لديه لا تنصّ صراحة على حقّ المنظمات في تقديم مذكرات مماثلة وأن المجلس يخشى أن يتمّ في حال فتح هذا الباب إغراقه بالمذكرات والمذكرات المضادة. إزاء هذا الرفض، عبّرت الجمعيتان عن أسفهما لهذا التوجه، ولا سيما أنه يقتضي تفسير الصمت التشريعي على النحو الذي يعزز حقّ المواطن في التعبير عن رأيه واللجوء إلى القضاء، وليس العكس، وأنه من غير المناسب أن يتخوّف المجلس من إمكانية إغراقه، فيما أنه لم يتلقّ طوال 2015 سوى طعن واحد، هو تحديداً الطعن في قانون إستعاة الجنسية. في هذا المقال، تعرض الباحثتان ميريم مهنا وجنى بكار كيف ذهب المجلس الدستوري الفرنسي في اتجاه معاكس تماماً أي في اتجاه فتح أبواب المجلس أمام أيّ مواطن يرغب بإسماع صوته، بتشجيع واسع من الآراء الفقهية التي وجدت في ذلك ما يعزز الديمقراطية التعددية ويغني اجتهاد المجلس (المحرر).

ميريم مهنا
جنى بكار

رغم أن القانون الفرنسي ضيّق دائرة المرجعيات القادرة على الطعن في دستورية القوانين حتى 2010،  فإن المجلس الدستوري الفرنسي أرسى ممارسات من شأنها فتح أبوابه تدريجياً أمام المواطنين، على نحو يعزز دوره كحامٍ للحقوق الأساسية والحريات العامة ويعمّق علاقته مع المجتمع في دولة ديمقراطية تعددية.[1]

أ‌-     نشوء ممارسة الأبواب الضيقة portes étroites

نشأت ممارسة “الأبواب الضيقة” في أواخر السبعينيات في فرنسا. ولم تكن هذه النشأة سهلةً. فقد أثار تقديم المذكرات حول قانون الموازنة لعام 1977[2] المطعون به آنذاك امتعاض بعض أعضاء المجلس الدستوري.ف »كان المجلس يتلقى مذكرات وعرائض واستشارات من مختلف الأنواع، كانت تهدف إما لتوسيع الطعن وإما لمساندته أو الاعتراض عليه”[3].  ولكن سرعان ما تم قبول هذه الممارسة في أوائل الثمانينات، إذ “أنها تُخرج المجلس من إنزوائه وتفتحه على المجتمع المدني”[4]، بالتحديد مع ورود العديد من المذكرات الشخصية أو الجماعية المناهضة لقانون “الأمن والحرية” لعام 1981 والمرسلة إلى المجلس الدستوري، وكذلك مع تقديم العديد من الإستشارات لأساتذة في القانون أو المقالات الفقهية بشأن قانون التأميم عامي 1981-1982.

وبحسب العضو السابق في المجلس الدستوري Georges Vedel(1980-1987)، “ان منافع أو فضيلة النظام المعمول به تظهر في “الباب الضيق” الذي يفتحه أمام المواطنين للتحرك بشكل فردي أو غالباً جماعياً. (…) فحرية المراسلة المعترف بها في الاجتهاد تسمح لكل شخص أو لكل مجموعة من تبليغ المجلس بعدم دستورية أحكام لم تتمّ إثارتها في الطعن، كما والمحاججة في هذا الاتجاه”[5]. ويتابع بالقول إن هذا “الباب الضيق” لا يشكّل “دعوى أو طلب تدخل بالمعنى الاجرائي ولكنها ببساطة معلومات مقدّمة من قبل مواطنين صالحين”[6].
وبحسب العضوالحالي في المجلس الدستوري Guy Canivet، تقضي هذه الممارسة بتسلم المجلس وقراءته رسائل مرسلة اليه من أي شخص في سياق طعن دستوري. (…) ويمكن لهؤلاء أن يكونوا جمعيات أو شركات كبيرة تقوم بإبلاغ رأيها حول النص الخاضع للدرس إما للدفاع عن دستوريته أو للمطالبة بإعلان عدم دستوريته”[7].

ويرى Canivetأنّ “هذه الممارسة القاضية بتقديم المذكرات التلقائية قد تطورت بشكل ملحوظ. فلم يتردّد ممثلو مجموعات المصالح وبالأخص النقابات والجمعيات، مهنية كانت أم لا، أو حتى بعض الأفراد، في استعمال هذه الوسيلة إما لدعم مقدم الطعن والمطالبة بإبطال القانون أو للإعتراض على ذلك. وأضحت بذلك المناقشة الدستورية أغنى وأوسع”[8].

وقد بقيت هذه الممارسة سارية حتى بعدما تم تعديل طرق الولوج إلى المجلس الدستوري الفرنسي في 2010، وتحديداً بعدما فتح المشرع أمام الذين لهم مصلحة خاصة للطعن في دستورية نص قانونيمن خلال إثارة دفع عدم الدستورية أمام القضاء«Questions prioritaires de constitutionnalité».فقد قبل المجلس الدستوري في قراره 71-2010، ولأول مرة بعد تطبيق نظام ال QPC، مذكرات مقدمة من “جمعية تتدخل في القرار ليس من أجل الدفاع عن موقعها القانوني وإنما للدفاع عن الحقوق التي أنشئت للدفاع عنها”[9].

ويبدو بعد التمحيص في الإجتهاد الدستوريّ أنّه قد أولى أهمية كبيرة لدور الجمعيات المدافعة عن الحقوق في هذا المجال[10].

ب‌-لماذا التوجه إلى فتح الأبواب أمام ولوج المجلس الدستوري؟

هنا نستعرض بعض الأسس التي انبنت عليها هذه الممارسة وأهمها الآتية:

انسجام فتح الأبواب معأهداف الرقابة الدستورية

بحسب العضو السابق في المجلس الدستوري GeorgesVedel“قد يتساءل البعض عن عدم إستبعاد المجلس لتلك المذكرات من المناقشات في المبدأ إذ أنّه لم يجزْها أيّ نص قانوني. إلا أن رفض هذه المذكرات كان ليكون خطأً ولغطاً. خطأً لأنه كان ليعني التخلّي عن إمكانية الإجتهاد تأمين الظروف الملائمة لإجراء تحقيق وجاهي لم يلحظه القانون دون أن يمنعه. وكان ليكون كذلك لغطاً قانونياً، لأنه على المجلس الدستوري أن يدرس دستورية القانون بموضوعية (…)، إذ أن عليه دائماً مراقبة القانون بكامله. من هذا المنطلق، لا يكمن دوره في التحكيم بين فريقين، وإنما أيضاً في إيضاح الأسباب القانونية التي ستوجه قراره (…). بمعنى آخر، ان موجب الوصول إلى المعلومات هو الأساس وان الوجاهية ليست سوى مبدأ ملازم لذلك”[11].

وإنطلاقاً من كون المراقبة الدستورية تهدف إلى تحقيق مصلحة عامة، رأى بعض الفقهاء الفرنسيين “أن الكيانات الإجتماعية التي ترمي إلى حماية مصالح جماعية ومتشعبة، والتي تتضمن بالطبع الجمعيات التمثيلية لمصالح فئة ما (مهنية) أو لحقوق أقلّية ما )(، وكذلك الجمعيات التي تروّج لقضية ما وتدافع عن حقوق الإنسان (…) فلكل هؤلاء الأشخاص المساهمة في أهداف الرقابة الدستورية”[12]. ويضيف هؤلاء في الإتجاه نفسه أن “الحكم بدستورية القانون، بالنظر إلى موضوعه ومفاعيله وأهدافه، يتطلّب أيضاً وخصوصاً، مشاركة أشخاص يمثّلون (…) المصالح العامة الأخرى التي يحملها المتدخل بطريقة ما”[13]. وممكن التأكيد ختاماً مع GuyCanivet، “أن مذكرات ال amicus curiaeهي طبيعية في النقاش أمام محكمة دستورية لأن المراجعة أمامها تتعلق بمناقشة موضوعية حول دستوريّة قانون معين. فمن الطبيعي أن تعرض الفئات المعنية أو الأشخاص ذات المصلحة وجهات نظرهم في المسائل المطروحة”[14].

فتح الأبواب يسهم في إغناء القرار الدستوري

لتمثيل المصالح العامة أمام المجلس الدستوري من خلال تقديم الهيئات المدافعة عن الحقوق مذكرات بعدٌ عمليّ. فهذه الهيئات المتخصصة هي الوحيدة التي تظهر قادرة على تقديم “مساهمة شاملة ومتكاملة في تعليل القاضي، من خلال المعلومات والوقائع والمعطيات المتصلة بالمصالح التي تدافع عنها (…)”. فعموماً “تتوفّر لديها المعطيات الاقتصادية والتقنية التي تولّد مستوى عالياً من التحليل القانوني، الذي يسمح من جهة لهذه الملاحظات أن تكون ذات منفعة مهمة للقاضي الدستوري، ويمنح من جهة أخرى القرار شرعية أفقية أكبر منبثقة من غنى التحليل”[15].

فتح الأبواب يهدف إلى تعزيز مشروعية القرار

إن مشاركة الهيئات المدافعة عن المصالح العامة في المراجعات الدستورية تعطي شرعية وقبولاً أكبر لقرار المجلس من قبل المجتمع، خاصة في الأنظمة الديموقراطية. فيلعب المجلس الدستوري دوراً رائداً في تفسير الدستور، وصون حقوق المواطنين جميعاً بعيداً عن مصالح الأكثرية الحصرية[16].

في الواقع، “إن وصول الجمعيات والمجموعات إلى القضاء الدستوري يلبي أيضاً حاجة في الديمقراطية التعددية، بإعطاء الصوت لمختلف الحقوق والمصالح التي تشكل المجتمع، في المكان المكرّس لحماية الدستور (…). إن هذه المكونات الاجتماعية تشكل بالفعل الوسيط للمواطنين للمشاركة في الحياة العامة. فمن خلال تلك المكونات، يحصل المواطنون على المعلومة ويعلمون الرأي العام، ويروّجون لقضية ما أو لحقوق جديدة، ويدافعون عن حقوقهم الشخصية بوجه التعديات المحتملة من السلطة العامة”[17].

ومشاركة الجمعيات هذه تعيد المجلس الدستوري إلى دوره التصحيحي للتوازن في الديمقراطيات التمثيلية، مما يعزّز قبولاً أوسعاً لخيارات المشرّع. بالفعل، “إن حماية الاقليات، بما فيها غير الممثلة في السلطة السياسية، هو أحد الأهداف الأساسية للعدالة الدستورية”[18]، و”عند تفسير الدستور، على المحاكم الدستورية أن تحرص على عدم سحق مصالح وحقوق الاقليات ذات القيمة الدستورية، بفعل خيارات سياسية تم تبنيها شرعياً من قبل الأكثرية”[19]. وعلى المجلس الدستوري، بهدف لعب هذا الدور، أن يعير إنتباهه إلى الرأي العام[20].

نشر هذا المقال في العدد | 35 |كانون الثاني/يناير/  2016 ، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:
القضاء يخسر معركتين في سبعة أيام


[1]V. A. M. Lecis Cocco-Ortu, L’intervention dans le cadre du contrôle a posteriori de la loi en droit français et italien, Revue du droit public et de la science politique en France et à l’étranger 2013, no 2, p. 351
[2]V. Les grandes délibérations du Conseil constitutionnel, Dalloz, 2e éd., 2014, p. 236.
[3]G. Vedel, Réflexions sur les singularités de la procédure devant le Conseil constitutionnel, in Nouveaux juges, nouveaux pouvoirs ? Mélanges en l’honneur de Roger Perrot, Paris, Dalloz, 1996, p. 537.
[4]M. Matthieu, Dans les coulisses du Conseil constitutionnel, cible des lobbies, Mediapart, 12 oct. 2015, accès en ligne : « elles sortent le Conseil de son huis clos et l’ouvrent sur la société civile ».
[5]G. Vedel, Réflexions sur les singularités de la procédure devant le Conseil constitutionnel, op. cit.
[6]Ibid.
[7]G. Canivet, J. Arrighi de Casanova, M.-A. Frison-Roche, Experts et procédure: l’amicus curiae, RDA, octobre 2012.
[8]Ibid.
[9]A. M. Lecis Cocco-Ortu, L’intervention dans le cadre du contrôle a posteriori de la loi en droit français et italien, op. cit.
[10]Les « défenseurs d’intérêts collectifs » selon l’expression de Mme A. M. Lecis Cocco-Ortu, in L’intervention dans le cadre du contrôle a posteriori de la loi en droit français et italien, op. cit..
[11]G. Vedel, Réflexions sur les singularités de la procédure devant le Conseil constitutionnel, op. cit.: « Le Conseil doit examiner objectivement la constitutionnalité d’une loi (…) que, toujours, il doit examiner la loi dans sa totalité. Dès lors son rôle n’est pas d’arbitrer entre deux parties, mais de découvrir les motifs de droit qui guideront sa décision et qui débordent souvent l’échange d’arguments (…). Autrement dit, c’est un impératif d’information qui est à la base et la contradiction n’est qu’un corollaire de l’information ».
[12]A. M. Lecis Cocco-Ortu,L’intervention dans le cadre du contrôle a posteriori de la loi en droit français et italien, op. cit.
[13]Ibid.
[14]G. Canivet, J. Arrighi de Casanova, M.-A. Frison-Roche, Experts et procédure: l’amicus curiae, RDA, octobre 2012.
[15]A. M. Lecis Cocco-Ortu, L’intervention dans le cadre du contrôle a posteriori de la loi en droit français et italien, op. cit.
[16]Ibid. «La participation de groupes porteurs d’intérêts collectifs peut contribuer également à satisfaire le besoin de légitimité du juge constitutionnel, notamment dans son rôle contre-majoritaire et d’interprète de la Constitution».
[17]Ibid.
[18]V. L.Favoreau, Actualité et légitimité du contrôle juridictionnel des lois en Europe occidentale, RDP, 1984, p.1198.
[19]A. M. Lecis Cocco-Ortu, L’intervention dans le cadre du contrôle a posteriori de la loi en droit français et italien, op. cit. L’auteur affirme clairement : « En somme, le fondement commun à toutes les argumentations en soutien de l’intervention des sujets porteurs d’intérêts collectifs est le fondement démocratique. Dans une société démocratique il faut que les différentes positions soient écoutées, que la pluralité des sujets qui la composent ait une voix et que les pouvoirs publics prêtent une certaine attention à la société ».
[20]M. Fatin Rouge-Stefanini, Les qualités d’une Cour constitutionnelle : retour sur la dénomination du Conseil constitutionnel et la contestation de son caractère juridictionnel en comparaison avec le cas de la Belgique, en ligne dans les Actes du Congrès de l’AFDC, 2011, p. 16.
انشر المقال

متوفر من خلال:

مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات ، دستور وانتخابات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني