تغيير الجنس في حكم قضائي جديد: احترام حق الفرد في تغيير حاله


2016-01-11    |   

تغيير الجنس في حكم قضائي جديد: احترام حق الفرد في تغيير حاله

مع امتناع المشرّع اللبناني عن اقرار قانون يرعى حالة متخالطي الجنس، يثابر هؤلاء بتغذية اجتهادات المحاكم اللبنانية. وآخر القرارات على هذا الصعيد، القرار الصادر عن محكمة الاستئناف المدنية في بيروت بتاريخ 3/9/2015 تحت الرقم 1123/2015. ويشكّل هذا القرار أهمية بالغة كونها على حدّ علمنا المرّة الأولى التي تصدر فيها محكمة استئناف قراراً في هذا الخصوص. ويتميّز هذا القرار لجهة التعليل المعتمد فيه من أجل معالجة مسألة مدى إمكانية تصحيح الجنس لجعله متطابقا” مع الحالة النفسية والعاطفية والتصرفية للفرد كما سنبين أدناه.

وقد نظرت محكمة الإستئناف في طلب تصحيح الجنس لجعل قيد المستدعي “ذكراً” بدلاً من “أنثى” على اثر تقدّم هذا الأخير باستئناف طعنا” بالقرار الصادر عن القاضي المنفرد في بيروت بتاريخ 3/12/2014. وكان القاضي المنفرد ردّ طلب التصحيح معتبرا” أنه لا يمكن الاستجابة له في ظل الإزدواج الحاصل بين قيود الأحوال الشخصية وواقع الفرد الناتج عن إرادته المنفردة، حيث أن “العلاج الهرموني والنفسي والجراحي المتمثل بالعمليات الجراحية التي خضعت لها المستدعية بسعي وتصميم منها، لم يكن يهدف في الأساس الى تصويب العيب الخلقي أو حالة إختلاط أو إزدواج جنسي كانت تعاني منه، لا بل أن جميع هذه العلاجات والعمليات الجراحية هي التي أدّت الى خلق هذا الواقع الجديد المستحدث”.
إ
لا أنّ محكمة الاستئناف اعتمدت توجهاً معاكساً، توجّهاً كان اعتمده أكثرية القضاة المنفردين الناظرين في قضايا الاحوال الشخصية في قراراتهم في هذا الخصوص[1].وقوام موقفها اعتبار الإزدواج بين الواقع المستمد من حالة طبية ضرورية وقيود الأحوال الشخصية في خانة الخطأ القابل للتصحيح أولا” وحق الفرد في احترام حياته الخاصة ثانيا”.

1.    الإختلاف بين الواقع والهوية الجنسية خطأ قابل للتصحيح:

اعتبر القرار الصادر عن محكمة الاستئناف على ضوء الخبرة الطبية المبرزة في الملفّ أنتحوّل جنس المستأنف عبر العلاجات الهرمونية والعمليات الجراحية هو عمل طبّي ضروريّ “لشفاء وتخليص” المستدعي من “المعاناة التي رافقت[ه] طيلة حيات[ه]”، معاناة نتجت عن “مرض الاضطراب في الهوية الجنسية منذ طفولت[ه]، دون ان يكون هناك ما يدل على ان[ه] تسب[ب] لنفس[ه]  بهذا المرض بفعل ارادي من[ه]”. وهي بذلك دحضت القرار الإبتدائي الذي اعتبر أن الواقع المستحدث هو نتيجة الإرادة المنفردة.

وقد ذهبت محكمة الإستئناف أبعد من ذلك، بتأكيدها على أن “حق الشخص في تلقي العلاج اللازم لما يعانيه من أمراض جسدية ونفسية هو حقّأساسيّ وطبيعيّ ولا يمكن لأحد أن يحرمه منه”. وعلى ضوء ذلك، بدا التحوّل الحاصل في جنس الشخص المعني على أنه نتيجة طبيعية لممارسة حق طبيعي هو حق العلاج من مرض نفسي، نتيجة جديرة بالإحترام. وأضافت محكمة الإستئناف إلى ذلك أنّ تصحيح الأخطاء الحاصلة في سجلات النفوس بمقتضى المادة 21 من المرسوم رقم 8837/1932 لا يقتصر على الأخطاء المادية البحتة بل يشمل الحقيقة المستحدثة. وهذا ما نقرؤه في العبارة  الواردة في قرارها ومفادها وجوب “تصحيح القيد لجعله مطابقا” للحقيقة”.

بالطبع، ما خلصت إليه محكمة الإستئناف هو أحد أشكال مواجهة القانون لتركيبة الهوية الفردية المعقّدة. فسجلات الأحوال الشخصية تهدف إلى تعريف الشخص. وفي حين كان هذا التعريف من الأمور السهلة بحيث يتم بالإستناد إلى معايير حدّدتها الطبيعة وعرّفتها مسبقاً، معايير معطاة، وهي في حالة الجنس معطيات بيولوجية موضوعية، دخل القانون الى دائرة الغموض والالتباس على أثر المطالب الموجهة إليه بوجوب الأخذ بمعايير أخرى مرّكبة ترتكز على نظرة الفرد لنفسه وعلى تصرّفاته في المجتمع ونظرة المجتمع له[2]. وأمام حرج القانون في محاولات التمييز ما بين الهوية الموضوعية والهوية الذاتية، كان لا بدّ من تكريس “واقع الحالات الشخصية” الذي هو بطبيعته واقع متخالط ومتحوّل، لا يقتصر على الواقع البيولوجي المحدد عند ولادة الفرد، بل يتعدّاه ليشمل تطوّر الحالة النفسية والتصرفية بتعقيداتها المتعددة.

والسؤال الذي يطرح في هذا الإطار يتعلّق بمدى إمكانية تكريس هذه الهويات الذاتية من دون اعتماد أي معيار موضوعي كان. فهل يمكن لسجلات الأحوال الشخصية أن تكرّس الهويات الذاتية بمعزل عن أي تطابق بيولوجي موضوعي كان؟ وتحديدا” في حالة الجنس، هل يمكن تكريس جنس مغاير لجنس المستدعي عند ولادته بمعزل عن أي علاج هرموني أو عملية جراحية كانت عبر الاكتفاء بواقع مستحدث نفسيا” ومسلكيا”؟ وفي حال النفي، ما مدى العلاجات الطبية المستوجبة من أجل تصحيح الجنس؟ هل يمكن الإكتفاء بالعلاج الهرموني أو بعملية جراحية واحدة أو هل يتوجب أنيثبت المستدعي خضوعه لعمليات جراحية أدت إلى استئصال الأعضاء التناسلية للجنس عند الولادةوتزويده بالأعضاء التناسلية للجنس المطالب بالإعتراف به؟

هذه هي أطر النقاشات المتداولة حاليا” على المستوى الدولي والتي لاقت أجوبة متغايرة بين الدول. فكرّست الأرجنتين “الهوية الجندرية”[3]التي عرّفتها على أنها النمط الداخليّ والفرديّ الذي يتصوّر الأشخاص من خلاله الجندر، والذي يمكن أن يتطابق مع الجنس المحدد عند الولادة كما يمكنه أن يختلف عنه عبر تغيير الشكل الخارجي للجسد أو وظائفه من خلال الجراحة أو غيرها من الأدوات على أن يتم اختيارها بحرية. كما يمكنه أن يتضمن تعابير مختلفة عن الجندر كالملبس، أو الأسلوب في الكلام والإيماءات[4]. واستتبع هذا التكريس فتح الأبواب أمام تغيير الجنس المسجّل للأفراد بناء على طلب منهم يقدّم إلى الجهات الإدارية من دون فرض أية شروط كانت لناحية خضوعهم إلى علاج نفسي أو هرموني أو عمليات جراحية من أي نوع كان[5]. وقد آل هذا الموقف المتقدم للاعتراف بحق الفرد باحترام هويته الجندرية[6]. أما في فنلندا، فيتوجب على الفرد الذي يطلب تغيير جنسه أن يخضع لعمليات جراحية إخصائية أو أن يكون قد أثبت أنه لا يمكنه الانجاب[7].بالمقابل، تعتمد بعض الدول الأخرى كإسبانيا[8]والمملكة المتحدة[9] حلا” وسطا” بحيث تشترط خضوع الفرد لعلاج طبي من دون أن تستوجب أن يتضمن هكذا علاج عملية جراحية. والجدير ذكره في هذا الصدد التوجّه العامّ في مختلف الدول الأوروبيّة لاستبعاد الشرط المتمثل بخضوع الفرد لعمليات جراحية أو علاج هرموني من شأنه الاطاحة بقدرة الفرد على الانجاب[10]. فماذا سيكون موقف القضاء اللبناني أمام هذه التساؤلات؟
لا يتضمن قرار محكمة الاستئناف أيّ ذكر للشروط الواجب توافرها إلا التذكير بعدم وجود “أي إمكانية لعودة المستدعي إلى جنسه السابق” وهو معيار لا تزال تعتمده المحاكم الفرنسية حتى اليوم[11]. إلا أنه يبدو لنا أن اشتراط خضوع الفرد لعلاج هرمونيّ أو جراحيّ لا يجد مبرّراً إلا في حال التمسك بصورة موضوعية للهوية، وهي صورة ثبت أنها غير متحقّقة في الواقع لما للهوية من اعتبارات متعددة لا يمكن حصرها في خانة تحددها معطيات الطبيعة المتحولة.

2.    حق الفرد في احترام حياته الخاصة:

لم تكتف محكمة الاستئناف بالإشارة الى التباين بين واقع الحالة الشخصية وقيود الاحوال الشخصية لفسخ القرار الصادر عن القاضي المنفرد، بل علّلت قرارها بحق الفرد باحترام حياته الخاصة. فرفض تكريس واقع الحالة المستحدث يشكل حسب ما خلصت إليه “تعرّضاً غير مبرر لخصوصية حياتها الشخصية وحرياتها الأساسية” على اثر إطّلاع الغير على الازدواجية المذكورة في معرض قيام المستدعي ب”المعاملات الادارية والقانونية وسواها من المعاملات التي توجب إبراز الأوراق الثبوتية الرسمية والتي تختلف في ظاهرها عن هويته الفعلية”.

ولتبرير موقفها الحمائي لحق الفرد بالحياة الخاصة في ظل غياب قانون داخلي يكرّسه، استندت محكمة الاستئناف على المادة 17 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي صادق لبنان عليه والذي يضمن لكل إنسان الحق في حماية حياته الخاصة ويمنع التعرض لها.
أما المثير للاهتمام هو استشهاد القرار بموقف المحكمة الأوروبية لحقوق الانسان وبالتحديد بقراريها(غودوين ضد المملكة المتحدة الصادر بتاريخ 11/7/2002 و ب. ضد فرنسا الصادر بتاريخ 25/3/1992) للقول بأن “عدم قبول طلب تصحيح الجنس في سجلات الأحوال الشخصية تبعا” لتبدل جنس صاحبها المتحول جنسياً يشكل مخالفة لأحكام المادة 8 من الإتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان والتي تضمن حق الشخص باحترام حياته الخاصة”.

فما أبعاد هذا الحق؟ وهل هو يتضمن أمرة النفس“l’autonomieindividuelle”وهو مفهوم طورته المحكمة الأوروبية لحقوق الانسان وقوامه الإعترافبحق الفرد باتخاذ القرارات التي يراها مناسبة في شؤونه الخاصة بمنأىعما يفرضه المجتمع من قيم أخلاقية أو دينية؟ وهل يؤدي تكريسه الى فتح الأبواب أمام متخالطي الجنس للإعتراف بزواجهم من أفراد ينتمون إلى الجنس المطابق لجنسهم عند ولادتهم؟
تساؤلات يبقى للقضاء اللبناني الإجابة عليها.

للاطلاع على القرار، انقر/ي على الرابط ادناه

للإطلاع على النص مترجما الى اللغة الإنكليزية يمكنك الضغط هنا

نشر هذا المقال في العدد | 34 |كانون الأول/ديسمبر/  2016 ، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:

المجلس الدستوري أمام استحقاقه الأكبر:التمييز ضدّ النساء غير دستوريّ


[1]يمنى مخلوف، قضاة الأساس يجتهدون: لمتخالطي الجنس أن يصححوا قيد جنسهم في سجلات النفوس، المفكرة القانونية- لبنان، العدد الأول، أيلول 2011.
[2]François VIALLA, « Prolégomènes sur l’approche juridique de la transidentité », Droit de la famille n° 5, Mai 2013,  dossier 13
[3]قانون الهوية الجندرية الارجنتيني الذي صوّت عليه مجلس الشيوخ بتاريخ 8/5/2012: https://globaltransaction.files.wordpress.com/2012/05/argentina-gender-identity-law.pdf
Marie LAMARCHE, « L’Argentine, laboratoire d’expériences législatives en droit des personnes ?ہpropos de l’autonomie en matière d’identité sexuelle et de mort », Droit de la famille n° 7-8, Juillet 2012,  alerte 37
[4]المادة 2 من القانون الارجنتيني
[5]المادة 3 والمادة 4 من القانون الارجنتيني
[6]المادة 1 من القانون الارجنتيني
[7]المادة الاولى من القانون الفنلندي Act on the Confirmation of Gender of a Transsexual 28 June 2002/563
http://trasek.fi/wp-content/uploads/2011/03/TransAct2003.pdf
[8]Marie LAMARCHE, «  Le transsexualisme en Espagne : loi du 15 mars 2007 sur l’identité de genre », Droit de la famille n° 5, Mai 2007, alerte 45
[9]قانون المملكة المتحدة Gender Recognition Act 2004
http://www.legislation.gov.uk/ukpga/2004/7/pdfs/ukpga_20040007_en.pdf
[10]القانون الايرلنديGender Recognition Act number 25/2015؛ والتقرير الصادر عن Open Society Foundations: “License to be yourself”، http://www.wpath.org/uploaded_files/140/files/license-to-be-yourself-20140501.pdf

[11]Philippe Reigné, « La Cour de cassation et le changement d’état civil des personnes transidentitaires », Droit de la famille n° 9, Septembre 2012,  comm. 131

انشر المقال

متوفر من خلال:

مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات ، جندر وحقوق المرأة والحقوق الجنسانية



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني