حرب إعلاميّة على الهيئة المستقلّة للإعلام السمعي والمرئي في تونس: أي دلالات وأي خلفيات؟


2015-12-28    |   

حرب إعلاميّة على الهيئة المستقلّة للإعلام السمعي والمرئي في تونس: أي دلالات وأي خلفيات؟

قررت الهيئة العليا للاتصال السمعي والبصري يوم 15/12/2015 إيقاف بثّ برنامج “لمن يجرؤ فقط” الذي يقدمه المنشط سمير الوافي على قناة الحوار التونسي الخاصة لمدّة شهر وذلك لمخالفته مقتضيات الفصل 5 من المرسوم عدد 116 لسنة 2011، لما تضمّنه من مسّ بكرامة الإنسان والحياة الخاصّة حسب رأي الهيئة. وقد تم بث هذا البرنامج على القناة المذكورة مساء يوم الأحد 13 /12/ 2015.

كما قررت الهيئة ايقاف بثّ برنامج “لاباس” الذي يقدمه المنشط نوفل الورتاني على نفس القناة لمدّة شهر، لما تضمّنه من مسّ بالأمن الوطني والنظام العام ومسّ بكرامة الإنسان حسب الهيئة. 

أثارت القرارات رد فعل ساخطاً لدى القائمين على قناة الحوار التونسي وخاصة المنشطين العاملين فيها. استعملت برامج القناة وضيوفها للتهجم على الهيئة وأعضائها والسخرية منهم. وقد تجندت بعض القنوات الأخرى لمساندة الحوار التونسي في هجمتها على الهيئة خاصة قناة نسمة رغم ما يعرف بينهما من منافسة حادة وصلت إلى حدّ العداوة. قاد الهجوم على الهيئة إعلاميون ومؤسسات إعلامية غالباً ما ينسب إليهم أنهم كانوا جزءاً من منظومة الاعلام المنسجم مع النظام الاستبدادي.

وجدت في الجانب المقابل الهيئة التي يصطلح على تسميتها محليا بالهايكا مساندة مطلقة من النقابة الوطنية للصحافيين التي دعتها لمواصلة الاضطلاع بدورها في إصلاح المشهد الإعلامي السمعي البصري والتصدي لهذه المحاولات البائسة للعودة إلى المربع الاول من سيطرة لوبيات تدفعها السلطة السياسية والمالية لتشويه المشهد الاعلامي.

 استهداف الهايكا يجتر هجمة "نظام بن علي "على الإعلام المستقل

يبدو للوهلة الاولى اصطفاف نقابة الصحفيين وراء الهايكا ومعارضتها لإعلاميين مستغربا بمنطق قطاعي ونقابي. لكن النظر في علاقة نقابة الصحفيين بالإعلام الذي يناوئ الهايكا اولا وعلاقتها بالهايكا ثانيا يكشف أن مساندة نقابة الصحفيين للهيئة الدستورية يندرج في مشروع نقابة الصحفيين للتأسيس لاعلام مستقل.

ويجدر التذكير هنا إلى أنه فور تحول نقابة الصحافيين التونسيين من جمعية الى نقابة في مؤتمر 13 جانفي 2008، تجندت أدوات النظام الديكتاتوري من بوليس سياسي وإعلامي وحتى القضاء لضرب الخطاب الذي يتمسك بحرية الاعلام واستقلاليته. وبعد 14 جانفي 2011 استطاعت النقابة أن تجمّع حولها السواد الأعظم من الصحافيين الذين تخلصوا من قبضة تخنقهم ومن خوف يحاصرهم لمدى عقود، ومضت في التأسيس لعهد جديد من الحرية يكون أساسه تشريعات مضبوطة وواضحة تمنع أي ارتداد على هامش الحرية المحصّل، وتكون الضمانة لديمومة مكسب حرية الصحافة. إن التوجّه لخوض معركة من أجل سن تشريعات تحمي الصحافي ومهنته من بطش السلطة الحاكمة مستقبلا كان خيارا استراتيجيا وأولوية قصوى. ونجحت النقابة بإلتفاف الصحافيين والمساندين لها من بقية الجمعيات المدنية وحتى بعض الأحزاب السياسية المؤمنة بحرية الاعلام في تحقيق أهم لبنة من لبنات الحرية وهي إصدار التشريعات المنظمة لقطاع الاعلام وتفعيلها بعد نضالات كثيرة وعسيرة منها إضراب عام للقطاع في 17/10/2012 تم من بعده تفعيل المرسوم عدد 116 وارساء الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري.

 
هيئة دستورية نتاج الثورة في مرمى نيران رموز إعلام بن علي

نجحت نقابة الصحافيين في تهيئة المجال لإرساء مؤسسة دستورية يعهد لها تنظيم قطاع الاعلام تسمى الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري. ونجحت الهيئة في فترة عملها الوجيزة في تنظيم أكثر من 60 مؤسسة إعلامية بين إذاعة وتلفزة واذاعة جمعياتية. والتنظيم هنا نقصد به منح اجازة استغلال محطة اذاعية أو تلفزية ومراقبتها، كما نجحت في إرساء مكسب نعتبره من أهم مكاسب استقلالية الاعلام وهو تجريم ومنع الاشهار السياسي حسب كراسات الشروط التي وضعتها. كما نجحت الهيئة في تحقيق التنوع والتعدّد المطلوبين في المشهد الاعلامي التونسي الذي عانى أحادية التوجه لمدى عقود. وإن هذه المكاسب الثلاثة هي التي قصمت ظهر "مافيا" الاعلام ولوبي الفساد والمفسدين. فمن استثرى و"استقرش" عن طريق الاعلام وحقق طموحاته السياسية والمالية بوسائل اعلام يمتلكها لن يتوانى لحظة في محاربة أي جهاز يحد من طموحاته أو يقلل من مرابيحه المالية. وهذا ما يفسر الهجمة الشرسة التي انطلقت ضد هيئة الاعلام منذ تأسيسها من قبل بارونات المال والاعلام.

ولا شكّ في أنّ حملة قناة "الحوار التونسي" الأخيرة جزءٌ من مشروع سياسي يهدف لضرب الهيئة والتشكيك في استقلاليتها وشيطنتها من أجل التخلي عن دورها وإعادة تحكم السلطة وأذرعها الإعلامية في الاعلام. لسائل أن يسأل كيف يتم ذلك؟ وكيف يتحكم الإعلام في الاعلام؟ سنجيب بالتالي: سيتم ذلك عن طريق إسقاط الهيئة والتخلي عن دورها والتوجه مستقبلا الى البرلمان لتنقيح المرسوم المنظم لها بما يفقدها كل صلاحيات ويجعل وجودها صوريا. وهو ما سيمكن الحكومة من إعادة السيطرة على الاعلام العمومي ليعود مجرد بوق دعائي لتوجهاتها وضرب خصومها. ويكون المجال مفتوحا في نفس الوقت للقنوات التابعة للأحزاب الحاكمة والتي جندت لضرب الهيئة للتمترس بقوة والرتع منفردة في المشهد بلا حسيب ولا رقيب، في المقابل يتم لجم كل مؤسسة ترفض أو تخالف هذا التوجه. وهو ما سينهي التنوع والتعدد ويضاعف من أرباحها ويخفف عنها حدة المنافسة.

وما يؤكد إرتباط الحملة ضد الهايكا بمشروع سياسي لا يمت بصلة للحرية الاعلامية، هو تاريخ الاعلاميين الذين يقودونه والذين لم يناضلوا يوما من أجل حرية الاعلام واستقلاليته. بل أكثر من ذلك، تجدر الإشارة إلى أن قناة الحوار التونسي ذاتها تشهد حاليّاً تحرّكاً احتجاجياً نقابياً لصحفيين يعتصمون للمطالبة بحقوقهم بعد تعرضهم للطرد التعسفي. ولم يشر اعلاميّو الحملة ضد الهايكا لهم في برامجهم ومساحاتهم الاعلامية لأنهم ببساطة لا يعتبرونهم زملاء بل يعتبرونهم أشخاصا يعملون لدى "العرف" رب العمل الذي يخدمون مصالحه.

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، تونس ، حريات عامة والوصول الى المعلومات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني