قضية المفقودين تعزز مبادئ العدالة الإنتقالية وتتعزز بها


2015-11-03    |   

قضية المفقودين تعزز مبادئ العدالة الإنتقالية وتتعزز بها

يتم تعريف العدالة الانتقالية على أنّها مرحلة إعادة بناء مجتمعي بعد مرحلة من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان والقانون الإنساني، حصلت في إطار صراع مسلح أو ممارسات قمعية من قبل الدولة أو فاعلين لا علاقة لهم بالدولة. ويتم استحضار آليات العدالة الانتقالية التي تسعى لمعالجة إرث وتأثير هذه الانتهاكات من أجل جبر ضرر ضحاياها، وتشجيع الإصلاحات المؤسساتية كوسيلة للتأكيد على استعداد الدولة لفتح صفحة جديدة. صفحة ترعى ثقافة المحاسبة وحكم القانون وممارستهما.

وقد شكّل نضال عائلات المفقودين، لا سيما في اميركا اللاتينية في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، عاملاً أساسياً في إعمال مفاهيم العدالة الانتقالية. فشكلت مطالب هؤلاء بمعرفة مصائرأحبائهم سبباً أساسياً لتأسيس لجان الحقيقة خلال الفترات التي تلت الدكتاتوريات، خصوصاً في الأرجنتين (١٩٨٣–١٩٨٤) وتشيلي (١٩٩٠–١٩٩١). وقد أدت مبادرة العائلات باللجوء إلى القضاء إلى وضع أسس ومبادئ مسؤولية الدولة بتأمين حق المواطنين بالمعرفة، وبالعدالة وجبر الضرر.

وبشكل موازٍ، كان لمفهوم العدالة اللإنتقالية أثرٌ إيجابيّ على نضال العائلات، بحيث وسع نطاق الخيارات المتاحة لها للمطالبة بحقوقها أمام القضاء ومن خارجه. وسمحت هذه النزعة الجديدة للعائلات بالإنتقال من وضعية الضحايا إلى أصحاب حقوق بكل ما للكلمة من معنى. فانتعشت شبكات التبادل الإقليمية والدولية، وتعلمت المنظمات والأفراد الملتزمون بالعدالة الانتقالية من تجارب بعضهم البعض، وعززوا حججهم وخططهم واستراتيجياتهم الوطنية. والأمر نفسه حصل في لبنان، حيث أمكن المنظمات الأهلية الإطلاع على النضالات والتطورات التي حصلت في دول أخرى. وفيما كان شعارهم في بداية الصراع “نريد عودة أولادنا”، رفعوا منذ 2000 حقهم بالمعرفة وطوروا خلال السنوات اللاحقة مشروع قانون صاغوه بالتعاون مع المجتمع المدني (المحلي والدولي). فلم يعد الأمر متعلقاً بمسؤولية الأفراد أو الجماعات المسلحة حيال الاختفاءات، إنما أصبحت العائلات تطالب الحكومات بتحمل مسؤولياتها تجاهها.

ومن أكثر الأحكام القضائية رمزية في ما يتعلق بالاخفاء القسري، الحكم الصادر سنة ١٩٨٨ من قبل محكمة الأميركيتين لحقوق الإنسان في قضية مانفريدو فلاسكيز رودريغيز، وآخرين، ضد دولة هندوراس. ولقد اعتُبر هذا الحكم تأسيسياً لأنّه لم يعترف بحق العائلات بمعرفة ما حصل وأقر بحقها بالحصول على تعويضات وحسب، بل حمّل دولة هندوراس المسؤولية بغض النظر عن حصول الانتهاك على يد الحكومة أم لا (في هذه الحالة كانت الميليشيات المتحالفة مع الدولة). وفي هذه القضية، أسهم مسار المحاكمة المرتبط بالاختفاءات القسرية  مباشرة في خروج البلاد من حكم الاستبداد.

لكن رغم الارتباط التاريخي والقوي بين الاختفاءات القسرية والمبادئ الأساسية للحق في المعرفة، والحق في العدالة، والحق في التعويض واقامة النصب التذكارية، من المهم جداً ألا ننسى أنّ العدالة الانتقالية ليست دوماً الحلّ الأكثر تناسباً لهذه القضية.

ففي وضع مثالي، تساعد العدالة الانتقالية المجتمعات في معالجة إرث الاختفاءات بشكل عمليّ، عبر جمع الحقائق الصعبة المرتبطة بكيفية حصول الإختفاء وزمانه ومكانه. ويتضمّن ذلك القدرة على حشد الموارد والمنظمات الرسمية لتحديد أماكن المقابر أو المعتقلات السريّة، والتأكد من إطلاق سراح المفقودين الذين لا يزالون على قيد الحياة، أو التعرف على هوية الرفات. ويسمح ذلك بالسعي لمحاكمة الأفراد المسؤولين والتأكد من حصول اجراءات التعويض – بشكل رمزي أو مالي – لصالح العائلات، والبدء بإصلاحات في المؤسسات التي مارست الاختفاءات القسرية أو الاعتقالات التعسفية والتعذيب. كذلك، وفضلاً عما ذكرناه أعلاه، يقتضي أن يكون لدى الدولة نية واضحة لإعادة الثقة المدنية في مؤسساتها، وتوجيه رسالة طمأنة للجميع أنّها سوف تعمل جاهدة لمنع تكرار ظاهرة الاختفاء القسري مستقبلاً (٢).

لكن ماذا عن لبنان الذي لم يشهد انتقالاً مماثلاً بعد حربه التي استمرت خمسة عشر عاماً؟ ماذا عن مناطق مشابهة شهدت نهاية صراعات مسلحة، لكن من دون أي انتقال سياسي أو اجتماعي أو نيّة واضحة للانتقال إلى حكم القانون وثقافة المحاسبة؟ هل تبقى العدالة الانتقالية إطاراً مهماً لمعالجة حاجات عائلات الأشخاص المفقودين؟ وإذا كان الأمر كذلك، هل يكفي معالجة الحقوق والحاجات متعددة الأوجه لعائلات الأشخاص المفقودين دون سواها من المسائل المتصلة بمبادئ العدالة الإنتقالية؟

إنّ مهندسي وخبراء العدالة الانتقالية يكررون، كما لو أنّهم يتلون تعويذة، أنّه ينبغي تصميم وتطبيق آليات العدالة الانتقالية على ضوء الظروف المحلية. لكن ورغم ذلك، غالباً ما يتم الإسترشاد بما بات يسمّى “أفضل الممارسات” في إعمال العدالة الانتقالية على صُعُدٍ مختلفة. وبشكل عام، تهدف هذه الآليات كلها إلى ضمان مصالح الضحايا وضمان عهد جديد من المحاسبة، وإعادة ثقة المواطنين بدولتهم. وأكثر تحديداً، قد تتضمن أفضل الممارسات بشأن الاختفاء القسري، على سبيل المثال، التأكد من أن للجان تقصي الحقائق ما يكفي من الصلاحيات للقيام بالتحقيقات، ومن ضمن ذلك اصدار مذكرات إحضار وإنفاذ، للتمكن من الحصول على المعلومات الضرورية لتقفي مصائر المفقودين وأماكن تواجدهم. ومن بين أفضل الممارسات الأخرى، آليات لضمان وجود تنسيق واضح وفعّال بين التحقيقات المتعلقة بالمحاكمة في حال وجودها ومسار تقصي الحقائق عن مكان وجود الضحايا، للتأكّد من عدم ضياع أي دليل أو معلومة.

وتشمل أفضل الممارسات إطلاع عائلات المفقودين بشكل منتظم على مسار معالجة ملفاتهم واستشارتها في مراحل مختلفة من هذا المسار. فعلى سبيل المثال، حين يتم الكشف على قبور جماعية، يحافظ، بعد استخراج عينات من العظم لمعرفة هوية الميت، على الرفات إلى أقصى حد بهدف إعادتها للعائلات تمهيداً لمراسم دفنها بشكل لائق. وفيما يتعلق بإجراءات جبر الضرر، يتوجب إجراء استشارات شاملة وحقيقية مع هؤلاء للتأكد من أنّ مخاوفهم وهواجسهم أُخذت بعين الاعتبار بشكل فعلي في أي برنامج تعويض. وفي حال توفرت شروط “أفضل الممارسات” للعدالة الانتقالية كافة، يصبح من الممكن معالجة حاجات وحقوق أقرباء المفقودين بأسلوب شامل ومتعدد الأبعاد. لكن العدالة الانتقالية فعالة فقط حين يسمح الإطار الاجتماعي والسياسي لها بأن تكون كذلك. وقد ركزت دراستان نُشرتا مؤخراً في لبنان على التأثير المستمر ونتائج فعل الاختفاء على العائلات، وقدمت توصيات ملموسة لمعالجة هذه التأثيرات(٣). والى جانب تكرار المطالبة بتمكين أهالي المفقودين من معرفة مصائر هؤلاء، شملت التوصيات وجوب اتخاذ خطوات أخرى أبرزها تأمين مساندة نفسية -اجتماعية ومساعدة مالية ومساعدة صحية لأهالي المفقودين. وقد بدأت عملية تقصي الحقائق (جمع المعلومات التي قد تؤدي إلى عملية التعرف) من قبل اللجنة الدولية للصليب الأحمر، بموافقة السلطات اللبنانية. كما كرس مجلس شورى الدولة في قراره الصادر في 4 آذار 2014 حق أهالي المفقودين في المعرفة. وقد تكون هذه الخطوات صغيرة مقارنة مع ما توجبه “أفضل الممارسات”، لكنها خطوات هامة جداً في مسار العدالة الانتقالية. فبإمكان أهالي المفقودين تحقيق انجازات في هذا الاطار دون الحاجة لانتظار مسار مجتمعي أوسع والانتقال نحو حكم القانون أو إنشاء آليات للعدالة الانتقالية خاصة بها.

نشر في الملحق الخاص بقضية المفقودين

حراك ذوي المفقودين، هذه المقاومة الأصيلة

(١) في هذا المقال نقصد بعبارة “الأشخاص المفقودين” الأفراد الذين يحيط الغموض بمصيرهم ومكان تواجدهم نتيجة عمليات قتل جماعي، واختطاف، واعقتال تعسفي، وقتل من دون اذن قضائي، في إطار نزاع مسلح أو ممارسات قمعية.

(٢)  De Greiff, Pablo (ed.، The Handbook of Reparations. “Justice and Reparations”،  Oxford University Press، ٢٠٠٨

(٣) أنظر “The Families of People Missing in Connection with the Armed Conflicts that have Occurred in Lebanon Since 1975: An Assessment of their Needs”، اللجنة الدولية للصليب الأحمر، أيار / مايو ٢٠١٣؛ كذلك Yakinthou, Christalla’s, “Living with the Shadows of the Past: The Impact of Disappearance on Wives of the Missing in Lebanon”، المركز الدولي للعدالة الانتقالية، آذار/ مارس ٢٠١٥.

انشر المقال

متوفر من خلال:

اختفاء قسري ، مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني