المحامون الشبان يكسرون حاجز الصمت ويطالبون بفتح ملف الفساد في المحاماة


2012-06-26    |   

المحامون الشبان يكسرون حاجز الصمت ويطالبون بفتح ملف الفساد في المحاماة

تشهد تونس مؤخرا تناميا في مطالب تطهير المحاماة، وهي غالبا ما تترافق مع مطالب تطهير القضاء. وجمع هذين المطلبين انما يشكل سمة لهذا البلد ويعكس مقاربة معينة لمنظومة الفساد القضائي في زمن ما قبل الثورة وهي مقاربة ربما يكسب كثير من الدول العربية في التدقيق فيها. ويسر المفكرة القانونية أن تنشر مقالا للقاضي محمد العفيف الجعيدي يتناول فيه هذا الأمر، منوها فيه بالتحركات الاحتجاجية للمحامين الشباب في تحريك الأمور داخل هياكلهم المهنية (المحرر).

يشهد قصر العدالة بتونس العاصمة منذ بداية شهر جوان 2012 تحركات احتجاجية من محامين يدعون هياكلهم المهنية للإسراع بفتح ملف الفساد في قطاع المحاماة ويتهمونها بالتستر على الفساد داخل المحاماة. يذكر المحامون المحتجون أن قطاعهم يعاني من تفشي ظاهرة السمسرة. فمن المحامين من يستخدم وسطاء مأجورين لغاية استمالة المتقاضين ومنهم من يتعمد النيابة في القضايا بأجور زهيدة لغاية ربح عدد هام من الحرفاء ويتعمد اصطياد المتقاضين من أروقة المحاكم. ويضيف المحامون أن تعمّد فئة مرتكبة منهم الاستيلاء على اموال المتقاضين وتجاوز الضوابط الاخلاقية والمهنية في تعاملاتهم أضر بسمعة المحاماة. كما يؤكدون على ضرورة تخليص المحاماة ممن تورطوا في التعامل مع جهاز البوليس السياسي خلال فترة الحكم الاستبدادي ومن أؤلائك الذين استغلوا نفوذهم ليحتكروا تمثيل مؤسسات الدولة.
كان المحامون الشبان في طليعة التحركات وذلك بعد أن بادرت جمعية المحامين الشبان التي ينخرط فيها أكثر من ربع المحامين المباشرين وأغلبية المحامين الشبان بتبني مطلب تطهير المحاماة. ويفسر تحمس شباب المحامين لمطلب التطهير بوقع الفساد عليهم، اذ أدى احتكار أقلية فاسدة لنسبة هامة من النزاعات القضائية بوسائل احتيالية الى تفقير المحامين الشبان وتهميشهم.
ويهدف حراك المحامين الشبان للضغط على مجالس فروع الهيأة الوطنية للمحامين من أجل عدالة أكبر في تأديب المحامين الضالعين في السمسرة اذ يذكر المحامون أن القرارات التأديبية يقتصر مداها على المحامين المبتدئين ولا يطال المحامين النافذين. فالهيآت التأديبية المتعاقبة تتهم بانها تسترت على كبار الفاسدين من المحامين لكون هؤلاء يستفيدون من حماية شبكة علاقات متشعبة ويتحاشاهم المسؤولون خدمة للحسابات الانتخابية. وان تجاسرت عليهم مجالس تأديب المحامين، فإنهم كانوا يجدون حماية من القضاء. فمحكمة الاستئناف بتونسالتي تختص قانونا بالنظر في الطعون في قرارات تأديب المحامين كان استقر فقه قضائها على أن تبطل أغلب القرارات التأديبية التي تطال كبار الفاسدين خصوصا منها تلك التي تسلط على محامين ينشطون بالحزب الحاكم تطبيقا للتعليمات التي تتلقاها من وزارة العدل أو لاعتبارات تتعلق بالمحسوبية في اطار منظومة الفساد القضائي.
أكد رئيس فرع المحامين بتونس للمحامين الذين انتقدوا بطء مسيرة الاصلاح أنه يساند مطالبهم وتعهد لهم بمحاسبة كل من يتجاوز أخلاقيات المهنة من دون تردد وذكرهم بقرارات التشطيب أي الاعفاء التي شملت ثلة من المحامين وصدرت خلال المدة القليلة الماضية وتميزت بصرامتها. فيما ذكر عميد المحامين شوقي الطبيب للمحتجين خلال اجتماعه بهم أنه يساند تحركهم إلا ان التطهير يجب أن يتم في اطار الهياكل المهنية وطبق القانون. وذكر قول العميد هذا الحاضرين بموقف الهيأة الوطنية للمحامين الذي رفض مشروع قانون تقدمت به كتلة حزب المؤتمر من أجل الجمهورية بالمجلس الوطني التأسيسي يقترح أن يتم صلب المجلس الوطني التأسيسي بعث لجنة تتولى تطهير المحاماة والقضاء. ويعود رفض المحامين تدخل غيرهم في تطهير قطاعهم لتمسكهم باستقلاليته ولتخوفهم من أن يتحول التعاطي السياسي مع ملف الفساد في المحاماة الى عملية تصفية حسابات بين مختلف مكونات الطيف السياسي.
سعى أنصار تطهير المحاماة الى اعطاء مطالبتهم بتطهير المحاماة بعدا اصلاحيا يتجاوز نظرية معاقبة من أخطأ ومحاسبته على تجاوزاته الى تصور استئصال للفساد في أسبابه ومسبباته. وفي هذا السياق أتت مطالبتهم بإعادة توزيع قضايا المؤسسات العمومية بين المحامين وفق قواعد موضوعية وفضح كل من استغل في الفترة السابقة انتماءه للمحاماة ليتواطأ مع السلطة الاستبدادية سرا وعلانية فيما هو مضر بمصالح المحاماة. ويقول المحامون أن تتبع ملف نيابة المحامين للمؤسسات العامة خلال العشر سنوات الماضية يكفي وحده للكشف عن أباطرة الفساد. كما أن اعادة النظر في قواعد توزيع قضايا المؤسسات العمومية على المحامين يمنع من ظهور أنواع جديدة من الفساد.
فالسلطة السياسية لم تكن تسمح للمؤسسات العامة بأن تنيب في منازعاتها ومعاملاتها من المحامين الا الذين ثبت خضوعهم لها وتواطؤهم معها ضد استقلالية المحاماة. فقد كشفت أعمال لجنة تقصي الحقائق حول الرشوة والفساد التي أحدثت عقب الثورة في تقريرها النهائي أن رئاسة الجمهورية كانت تشرف بشكل مباشر على توزيع قضايا المؤسسات العمومية بين المحامين وأن اسناد القضايا كان يبرر بدور المحامي في خدمة النظام. اذ عثر بالقصر على قائمة يقال أنها ضمت أسماء المحامين الذين يسمح رئيس الجمهورية لرؤساء المؤسسات العمومية بإنابتهم وبها ذكر لما قدموه من خدمات للسلطة السياسية وما أبدوه من ولاء لها. و ينتظر أن تؤدي دراسة قوائم محامي قصر الرئاسة الى محاسبة المحامين الذين كانوا قبل الثورة يجاهرون بمعاداة المحاماة خدمة لمصالحهم الخاصة. كما تؤدي في ذات الحين الى نزع القناع عن أسماء كبرى من المحامين خضعت للنظام السياسي سرا وعادته جهارا ولعبت أدوارا استخباراتية  لغاية الاضرار برفاقهم من رموز المحاماة المناضلة.
وفي محاولة لإرضاء المحتجين توصلت الهيأة الوطنية للمحامين لاتفاق مبدئي مع وزارة العدل أعلنت عنه يوم 21 جوان 2012 ينص على تكوين لجنة مشتركة بين الهيأة الوطنية وممثلي السلط العمومية وذلك بغرض النظر في تنظيم نيابة المحامين للمؤسسات العمومية لغاية وضع حد لكل مظاهر الانحراف والتحايل على القانون وتتداول وسائل الاعلام الوطنية تسريبات يستفاد منها أن اصلاح نيابة المحامين للمؤسسات العمومية سيكون مصحوبا بإعلان قائمة اعفاء لعدد هام من المحامين من حق نيابة المؤسسات العمومية على خلفية احتكارهم سابقا في اطار من الانحراف السياسي والمالي لقضايا الدولة.
لم تمنع محاولات احتواء الاحتجاج المتصاعد على تواصل الفساد من حصول مواجهة بين من رفعوا لواء التطهير وأسماء تتحمل مسؤوليات بهياكل المحاماة. فقد رفع خلال الجلسة العامة للمحامين التي عقدت  يوم 23 جوان 2012 محامون محتجون شعارات تندد بما يدعونه من تورط لمحامين ينشطون في الساحة العامة وفي هياكل المهنة في الفساد السياسي والمالي. ويبدو أن اتهام بعض المحامين لهياكلهم بالتقصير في التصدي للفساد يعود للارتباك الذي تعاملت به الهيأة الوطنية للمحامين مع الملف وبطئها في معالجته. فعند قيام الثورة التونسية وانهيار نظام الرئيس الاسبق زين العابدين بن علي كانت الهيأة الوطنية للمحامين من المنظمات والهياكل المهنية القليلة التي لم يزعزعها الحدث ولم يؤد الى انهيار قيادتها. ويفسر ذلك بالدور البارز الذي لعبه المحامون في تأطير الثورة وانجاحها. استندت هياكل المحاماة للشرعية النضالية وديمقراطية هياكل المهنة لتمنع كل حديث عن استبعاد لرموز الفساد وأقطاب النظام من قطاع المحاماة. قاد المحامون التحركات الثورية التي رفعت شعارات تطهير مؤسسات الدولة من الذين شاركوا في الفساد وفي مقابل ذلك كان قرارهم ان يمنعوا عاصفة التطهير من العبث ببيتهم. اعتقد كبار المحامين أن الملف قد أغلق وأن التطهير لا يعني المحاماة ولكن الضغط الداخلي وضغط الرأي العام ويضاف لهما الصراعات الداخلية التي عرفتها المحاماة عوامل اجتمعت وأدت  لفرض التطهير في أجندا المحاماة كمطلب يتمسك به عموم المحامين ويعتقدون أنه بوابة اصلاح ما لحقهم من تفقير وما يعانونه من تهميش. 
يتوقع أنصار التطهير من المحامين أن تكشف قضايا الفساد التي ينظر فيها القضاء وتلك التي ينتظر أن تحال عليه والتي تتعلق بالقضاة الذين وقع اعفاؤهم على خلفية قضايا رشوة وفساد مالي عن أسماء المحامين الذين شاركوا في الفساد القضائي. ويعود ذلك لما ذكروا من استحالة نجاح القاضي في الارتشاء دون مساعدة من محامين توسطوا له في ذلك وسهلوا له التواصل مع الراشين. كما أن بداية نهاية عصر وصاية وزارة العدل على القضاء أدى الى تعهد القضاء بعدد هام من ملفات بها شبهات فساد اتهم بها محامون كانت اجراءاتها معطلة على مستوى الادعاء العام لسنوات عديدة  لوجود تعليمات سابقة في هذا الاتجاه لتبقى اوراق ضغط تستغل لابتزاز المتورطين فيها. فقبل الثورة كانت وزارة العدل تتحاشى احالة المحامين على القضاء لتهم تتعلق بالاستيلاء على اموال حرفائهم وذلك ليكون المذنبون في حالة ضعف دائمة تمكن من استغلالهم سياسيا ومهنيا. وبحصول الثورة تحركت المحاكمات مجددا.
ويفرض الحديث عن تلازم مسار تطهير المحاماة مع مسار تطهير القضاء اعادة النظر في مضمون استحقاق تطهير القضاء الذي فرضته الثورة. اذ ظل لزمن تطهير القضاء مصطلحا يدل على تخليص القضاء من القضاة الفاسدين ويبدو أن تطور الرؤية يؤدي الى تجاوز ذلك ليكون التطهير مشروعا متكاملا يهدف لتخليص الأسرة القضائية من الفاسدين بما يسمح بالتصدي لا للفاسدين فحسب بل لمنظومة الفساد في امتدادها وتفرعاتها.
وتتفق الهياكل المهنية لمختلف قطاعات العدالة في مواقفها المعلنة على مساندة فعل التطهير مع ابراز تمسكها بأن يتم ذلك في اطار محاسبة عادلة تتوفر فيها شروط الموضوعية وتضمن للمشتبه بهم حقوقهم في الدفاع بعيدا عن منطق التشفي والتصفية السياسية. وفي مقابل ذلك تبدي فعليا مختلف القطاعات مقاومة تبرز في تحركات جماعية او تآزر بمنطق الزمالة اثر كل عملية محاسبة تحصل في اطارها. ويفسر ذلك بأحد أمرين او بكليهما، وأولهما، أن القطاع الذي يمسه التطهير يشعر المنتمون اليه بانتهاك لخصوصيتهم فينتفضون كردة فعل. وثانيهما، أن العناصر الفاسدة وقد هدد الفعل مصالحها تتحد لتقاوم استهدافها وتحمي مصالحها خصوصا وقد أدى الابطاء في معالجة ملف التطهير الى جعلها تتشكل في اطار جماعات ضغط فاعلة. حيوية منظومة الفساد وقدرتها على اعادة التكيف والمواجهة وحسن استغلالها للفضاء العام تجعل من عملية التطهير تحد حقيقي لا تكفي أحلام الشباب وطموحاته  لتحقيقه خصوصا وأن الفساد قوي ماليا ويضم فريقه أسماء لامعة في حين كان المطالبون بالتطهير في أغلبهم من الطبقة الكادحة.
 
 
 
 
 
 
  
 
 

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، تونس ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني