أزمة النفايات في لبنان- 1997: سلطة لا تتغير، تاريخ يعيد نفسه


2015-09-29    |   

أزمة النفايات في لبنان- 1997: سلطة لا تتغير، تاريخ يعيد نفسه

يعاني لبنان منذ تموز 2015 من أزمة نفايات تنذر بكارثة بيئية وصحية مع اقتراب موسم الشتاء. وقد اندلعت الازمة بعد اقفال مطمر الناعمة – عين درافيل في 17 تموز 2015 في ظلّ غياب خطة بديلة قادرة على استيعاب نفايات بيروت وجبل لبنان. هذه الأزمة ليست الأولى من نوعها في لبنان. فالطاقم الحاكم أوقع اللبنانيين في المأزق عينه عام 1997 حين أقفل مكب برج حمود دون إيجاد حلّ مناسب لجمع النفايات. يومها، طافت شوارع الضاحية الجنوبية لبيروت وساحل المتن الجنوبي بالنفايات في ظلّ تخبّط الحكومة وعجزها عن تقديم أي طرح عملي ينهي الأزمة. وفي هذه الفترة أيضاً، وجدت السلطة حلّا باعتماد مطمر جديد، أي الناعمة، بعد إحراق أهالي حي السلم لمحرقة العمروسية. تبيّن لاحقاً أن كلفة مطمر الناعمة البيئية والصحية فاقت كوارث برج حمود. ومن اللافت أيضاً أن وزير البيئة آنذاك، المكلف وضع خارطة الطريق، كان أكرم شهيّب. وضع شهيب خطة وصفها بالمتكاملة ليتبيّن لاحقاً أن تطبيقها اقتصر على انشاء مطمر الناعمة. نعود اذاً في مقالتنا هذه الى أزمة عام 1997. فالسياق متشابه والوقائع مماثلة والحلول المعتمدة عشوائية. وقد أدّى ذلك في نهاية الأمر إلى وقوع أزمة مشابهة وإن كانت أكثر خطورة اليوم.

إقفال مكب برج حمود[1]بعد عشرين عاماً من المعاناة

في كانون الثاني 1997، وافقت حكومة الرئيس رفيق الحريري على “خطة طوارئ” صاغت مضمونها شركة سوكلين. ارتأى مجلس الوزراء إقفال مكب برج حمود في 30 أيار 1997 وإنشاء مركزين جديدين لمعالجة النفايات:

– الأول في الكرنتينا وقدرته الاستيعابية 1100 طن يومياً ويعتمد على الفرز والتخمير والحرق والكبس.
– الثاني في العمروسية بقدرة تبلغ 600 طن يومياً.
وكان لافتا التركيز على الفرزمن المصدر كأولوية في خطة الحكومة اذ اعتبر وزير البيئة اكرم شهيب ان “وزارة البيئة مصرة على فرز النفايات وتدويرها وكبسها وطمرها لأن هذه الوسائل تلائم نوعية نفاياتنا.[2]

تأخرت الحكومة بتنفيذ القرار. عندئذ، قرر حزب الطاشناق ونواب منطقة المتن الدعوة الى إضراب تحذيري في 5 حزيران. واعتبروا حينها أنه من غير المقبول دفع الناس إلى الإضراب للمطالبة “برفع النفايات التي تهدد حياتهم.[3]” لكنهم سرعان ما عادوا وقبلوا باقتراح شهيب بتمديد المهلة لإقفال المكب حتى 15 تموز. الحجة حينها كانت تأخر مجلس الإنماء والإعمار في البت في العقود التي من شأنها إعادة تأهيل محرقتي العمروسية والكرنتينا، خاصة أن أهالي العمروسية اعترضوا على إعادة تشغيل المحرقة. علّق يومها الوزير السابق هاغوب جوخادريان قائلاً: “ان مكبّ برج حمود لم يعد مكباً للمنطقة وحسب بل لكل ضواحي بيروت والمتن…ونحن لسنا مجبرين على تحمّل نفايات المناطق الاخرى.[4]” استطاعت الحكومة اخيراً الالتزام بموعد 20 تموز. أقفل المكب في شكل نهائي والحلّ المزمع اعتماده تحوّل الى مشكلة بعد رفض اهالي العمروسية إعادة تشغيل المحرقة.

العمروسية[5] ليست الحلّ

عند إعلان شهيب عن خطته، علت صرخة الأهالي المطالبين بمعرفة السبب وراء اعتماد مبدأ الحرق مجدداً ونتائج هذا القرار على البيئة والصحة. خرج وزير البيئة ليوضح أن مبدأ الحرق اعتمد كحلّ أولي “والمحارق تقفل تدريجاً مع توفير المعدات الكافية واللازمة لتحويل كل تلك النفايات.[6]” ولم يرَ أمامه سوى الضغط على الاهالي من خلال تحذيرهم من انتشار النفايات على الطرقات في حال منع من تطبيق خطته. “فعلى السكان ان يتقبلوا وجود المحرقة لأن لا حلّ آخر غيرها والا فإن النفايات ستبقى على الطرق.” لم يكن شهيب الوحيد الذي ابتز الأهالي لتمرير الخطة، فانضم اليه محافظ بيروت آنذاك سهيل يموت جازماً بأن على “كل منطقة أن تضحي وتقتنع أنه يمكن ايجاد مكب فيها لا يشكل أي ضرر[7]” وبأن النفايات ستبقى على الطرقات الى حين إيجاد أرض بديلة. لكن أهالي حي السلم لم يكترثوا لتهديدات الطاقم الحاكم. ففيما كان شهيب يحلّ ضيفا على أحد البرامج التلفزيونية لتسويق خطته البيئية، كان الأهالي يقتحمون المحرقة ويضرمون فيها النار.

لم يتأخر رد الحكومة على سكان المنطقة فأعلنت سوكلين في بيان رسمي توقفها عن رفع النفايات التي أخذت تتكدس في الشوارع وبين المباني السكنية في 19 تموز. اعتقد اللبنانيون أنه ومع إقفال مكب برج حمود، ستنتهي مشكلة شكلت خطراً كبيراً على حياتهم. الا انهم استيقظوا ليجدوا شوارع الضاحية الجنوبية لبيروت وساحل المتن الجنوبي قد تحولت الى عشرات المكبات غرقت فيها الأحياء السكنية.

عاد الاهالي إلى الإعتراض. وساندهم مكتب منظمة “غرين بيس – الشرق الاوسط” الذي استغرب إقفال المكبّ “قبل ايجاد حلّ جذري أساسي للنفايات التي تنتج يومياً في بيروت وضواحيها.[8]” وإلتزاماً منها بسياسة “الترقيع”، اقترحت الحكومة إنشاء معمل للفرز في العمروسية[9] الى جانب موقع المحرقة. مرة أخرى، انتفض الأهالي ورفضوا أيّ حل يشكل خطراً على صحتهم، خاصة أن المعمل يقع بين المباني السكنية. عندها، لم يبقَ أمام الحكومة سوى البحث عن حلّ بديل بعدما اعلنت عجزها عن حلّ هذه الازمة من خلال خطة بيئية مستدامة.

منطقة المرامل: مكب عشوائي على طريق مطار بيروت

امام هذا الواقع، طلبت الحكومة من سوكلين نقل النفايات الى مركز مؤقت للطمر في عقار للدولة في منطقة المرامل (طريق المطار) واعتماد هذا المركز لغاية 30 ايلول الى حين تجهيز معمل العمروسية بتقنيات ضامنة للمعايير الصحية. وبالفعل، بدأت شاحنات سوكلين بجمع 5 آلاف طن من النفايات المكدسة على الطرقات بعد ساعة من اتخاذ القرار في 28 تموز وافرغت حمولتها في المكب المستحدث. وحرصت الشركة على أن يرافق عملها انتشار الروائح الكريهة على طول طريق المطار. انتقد مدير مكتب “غرين بيس” فؤاد حمدان سياسة الحكومة متهماً إياها باعتماد “حلول على طريقة الهواة وبتطبيق سياسة فوضوية.” واعتبر ان الحلّ الموقت يكمن في “فرز نفايات بيروت في معملي الكرنتينا والعمروسية وتسميدها واعادة تصنيعها.[10]” نقلت حينها جريدة النهار ردّ احد المسؤولين في وزارة البيئة على كلام حمدان حيث شدد بأنّ “النفايات المطمورة هناك ستعالج على غرار ما يحصل في مكبات المناطق.[11]” لم يعرف مصير تلك المعالجة والدليل الروائح التي ترافق المارة على طريق المطار حتى اليوم.

مطمر الناعمة: بداية الازمة الثانية

امتدّ تقصير الحكومة في معالجة هذه الازمة من منطقة المرامل الى برج حمود مرة جديدة. فبعد حوالي شهر على اقفال المكب (أواخر شهر آب)، بدأت النفايات التي لم تعالج بالاشتعال ما تسبب بانتشار غاز الميتان ونشوب حرائق هددت صحة أهالي المنطقة. عاد هؤلاء للاحتجاج على سياسة السلطة. فلم يجد شهيب حل سوى طمأنتهم بأن “النفايات ستنقل في أقرب وقت الى مكب الناعمة.[12]” في الواقع، كانت الحكومة قد قررت استخدام عقار قرب دير مار جرجس في الناعمة مكباً للنفايات. وبالتالي اعتمدت الحكومة مرة جديدة حلّ نقل الازمة من منطقة الى أخرى.عند تأكيد الخبر، تساءل أهالي الناعمة عن خطة معالجة النفايات على حسابهم بدل معالجة مشكلة التهجير. انتفضوا وحاولوا منع تطبيق القرار إلا أن الحسابات السياسية وقفت في وجههم. فأصدر محافظ بيروت في 18 آب 1997 قراراً يرخص من خلاله لمجلس الانماء والاعمار بإشغال مساحة كامل العقار الرقم 1721 ولمدة سنة واحدة تسري اعتباراً من تاريخ مباشرة العمل من أجل الطمر الصحي مقابل مبلغ 30 مليون ليرة لبنانية كتعويض عن إشغال كامل المساحة لدير مار جرجس. لم تكتف الحكومة بأرض الدير بل تمّ استحداث مطمر ثان في الكسارة السابقة للبلدة. تجدر الاشارة هنا الى ان هذا المشروع ايضاً سلّم بالكامل الى شركة سوكلين. لم يعترض احد باستثناء النائب الراحل وديع عقل عن منطقة الشوف، فتقدم بسؤال للحكومة. طرح عقل جملة من الأسئلة: “هل لنا أن نعرف ما هي أنواع النفايات التي تنوي الحكومة طمرها في الناعمة؟ هل من دراسة علمية وضعت في هذا الصدد آخذة في عين الاعتبار الضرر الذي يلحق بالناعمة ومحيطها؟ هل أن الطمر لن يلوّث جو المنطقة ومياهها الجوفية حتى لو اعتمدت أحدث انواع الطمر؟ هل سيتمّ فرز النفايات قبل طمرها وأين؟[13]“. لم يلقَ عقل أي جواب على أسئلته. فالقرار كان قد اتخذ والحكومة مضت في تنفيذ اتفاق المحاصصة تحت غطاء سياسي. وفي موازاة ذلك، حذّر حمدان من عواقب انشاء هذا المكب وأكدّ أنه سيتحوّل الى “برج حمود جديد لأنه يستوعب كل النفايات الصلبة غير الصالحة لاعادة معالجتها، وهذا يعني تلويثاً رسمياً لمنطقة الناعمة وجوارها.[14]

وبالفعل، لم تتأخر صرخة الأهالي الاحتجاجية ضد السياسة المعتمدة لمعالجة النفايات في المطمر. ففي أوائل عام 1998، خرج أهالي الناعمة ليقولوا أن “صهاريجاً تقصد المطمر ثم تخرج منه متسببة بروائح كريهة تنتشر في البلدة ومحيطها.” وأكّد تحقيق نشر في جريدة النهار في آذار 1998 حقيقة الأمر. فقد أورد أنه بعد ملاحقة إحدى هذه الشاحنات، اكتشف أن السائق يفرغ حمولته داخل قسطلين على طريق الجيّة يعبران الطريق ليتبيّن لاحقاً أنه شلال من المجارير يصبّ في البحر[15]. وفي الوقت نفسه، كانت الشاحنات تدخل المطمر بالمئات، نهاراً وليلاً، بعدما كان الاتفاق ينصّ على دخول 30 شاحنة يومياً. وعلاوة على ذلك، كانت هذه الشاحنات تُحضر نفايات غير موضبة الى المنطقة مغطاة بطبقة من التراب. وكانت تلك الشاحنات قد أخلّت ايضاً بالإتفاق القاضي بعدم مرورها داخل البلدة، خصوصاً انها محمّلة مواد عضوية تفوح منها الروائح الكريهة[16].

لم تقع الأزمة فجأةً على رأس حكومة الرئيس رفيق الحريري عام 1997. فقد كان لدى الحكومة كل الوقت لوضع خطة بيئية مستدامة تشكل باباً لحلّ أزمة مطروحة ومتمادية منذ أعوام. لكنها لم تستفد من هذا الوقت، تماماً كما فعلت حكومة تمام سلام اليوم. فهذه الاخيرة أصدرت قراراً بإقفال مطمر الناعمة في كانون الثاني 2015، أي قبل ستة أشهر من إقفاله فعليّا في 17 تموز 2015. وبالتالي كان أمامها متسع من الوقت لوضع خطة تطرح حلّا بيئيا مستداماً. لكنها وعلى عكس ذلك، أهملت الملف الذي دخل في زواريب المحاصصة السياسية والطائفية إلى أن وجدت نفسها في مأزق حقيقي. وبدل تدارك الأمر، عمدت الى المماطلة والتسويف الى حين بدأ الحراك في الشارع بالتوسع ونجح بالتالي بالضغط عليها. ويبقى السؤال المطروح اليوم: ما الذين يضمن ألا تتحوّل المطامر المعتمدة في خطة الوزير اكرم شهيب[17] (2015) إلى مطامر شبيهة بمطمر الناعمة؟ وما الذي يؤكد أن مكب برج حمود لن يعود مساحة للأمراض والأوبئة؟ وأخيراً، من يضمن إعادة الصلاحيات والأموال اللازمة الى البلديات من جهة واعتماد مبدأ الفرز من المصدر من جهة أخرى؟ هذه الشعارات جميعها طرحتها خطة شهيب الاولى (باستثناء صلاحيات البلديات) وفشلت فشلاً ذريعاً في تحقيق أيّ منها. وقد علمنا التاريخ في لبنان أنه جاهز دوماً لكي يعيد نفسه.

نشر هذا المقال في العدد | 32 |تشرين الأول/ أوكتوبر 2015 ، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:
المدينة لي، يسقط يسقط حكم #الأزعر


[1] كان مكب برج حمود يستقبل يومياً 12 الف طن من النفايات الصلبة، اضافة الى آلاف الاطنان من الردميات، الناتجة عن اعادة تأهيل وسط بيروت بعد فقل مكب النورماندي عام 1994. وكان ارتفاع المكب حينها 8 أمتار على مساحة 7 هكتارات. أما اليوم فيبلغ ارتفاعه حوالي 50 متراً. وقد أكل الطمر في المكب اكثر من 350 م²من البحر.
[2] شهيب: مصرون على فرز النفايات وطمرها. جريدة النهار، 7 تموز 1997، ص. 11
[3] اضراب نيابي – شعبي اليوم لقفل “برج حمود” في موعده. جريدة النهار، 9 تموز 1997، ص. 11
[4] ريما صوايا. اهالي برج حمود ونواب المنطقة اضربوا ضد المكب. النهار، 6 حزيران 1997، ص. 11
[5] تقرر انشاء محرقة للنفايات في منطقة العمروسية – حي السلم عام 1981. رفض الاهالي حينها قرار الحكومة فشكلوا لجان في المناطق سعياً لوقف تنفيذه. الا ان الاجتياح الاسرائيلي لبيروت عام 1982 اوقف التحرك ما اتاح للسلطة السياسية تمرير مشروعها بموجب المرسوم الرقم 80/3035، تاريخ 23 تموز عام 1992؛ اي مباشرة بعد انتهاء الحرب الاهلية في لبنان.
[6] زياد حرفوش ورمزي مشرفية. خسائر محرقة العمروسية، مليون ونصف مليون دولار. جريدة النهار، 28 حزيران 1997، ص. 9
[7] توقيف سبعة وحريق العمروسية يتفاعل سياسياً. جريدة النهار، 30 حزيران 1997، ص. 12
[8] ريما صوايا ووسام عيد. فرز النفايات في الكرنتينا هل يحلّ ازمة برج حمود. جريدة النهار، 22 تموز 1997، ص. 8
[9] بدأ العمل في المعمل في تشرين الاول 1997
[10] ريما صوايا ووسام عيد. هل تكون المرامل مكب برج حمود جديداً؟ جريدة النهار، 31 تموز 1997، ص. 11
[11] وسام عيد. هل تصدق الوعود ويقفل مكب المرامل في 30 ايلول. جريدة النهار، 13 ايلول 1997، ص. 7
[12] لماذا نفايات برج حمود الى الناعمة. جريدة النهار، 1 كانون الاول 1997، ص. 11
[13] عقل وجه سؤالا للحكومة حول ورشة المطمر في الناعمة. جريدة النهار، 25 آب 1997، ص. 10
[14] وسام عيد. هل تصدق الوعود ويقفل مكب المرامل في 30 ايلول. جريدة النهار، 13 ايلول 1997، ص. 7
[15] وسام عيد. صيف الناعمة ينذر بالاسوأ والمطمر الصحي للاختناق. جريدة النهار، 3 نيسان 1998، ص. 12
[16] رمزي مشرفية. هل تحوّل مطمر الناعمة مكباً عشوائيا؟ جريدة النهار، 3 آذار 1998، ص. 8
[17] http://bit.ly/1QUXep1تجدون خطة الوزير شهيب على الرابط التالي. تمت زيارة الموقع في 22 ايلول 2015.
انشر المقال

متوفر من خلال:

مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني