المحكمة الدستورية التونسية في مقترحي الحكومة والنواب


2015-09-15    |   

المحكمة الدستورية التونسية في مقترحي الحكومة والنواب

توصلت لجنة التشريع العام بمجلس نواب الشعب بمقترح من النواب في 2 جوان 2015 تعلق بالمحكمة الدستورية. وبعد شهر من هذا التاريخ، أودع لديها مشروع الحكومة في الأول من جويلية 2015 والمتعلق بنفس الموضوع. ويثير هذا الاهتمام المزدوج بالمحكمة الدستورية مشكلا أوليا يتعلق بأولوية النظر ذلك أنه وبصريح الفصل 62 من الدستور، فإن لمشاريع القوانين ]المقدمة من رئيس الجمهورية أو من الحكومة [أولوية النظر. ولذا فإنه من المنطقي أن يتم التركيز على دراسة مشروع الحكومة ويكون مشروع النواب حاضرا للمقارنة والإثراء.

ويستند الاهتمام بالمحكمة الدستورية الى إعتبارات ثلاثة:

–       الإعتبار الدستوري: حيث تنص أحكام الفصل 148 على أنه يتمّ في أجلٍ أقصاه سنة من تاريخ الإنتخابات التشريعية إرساء المحكمة الدستورية. ولذا، يكون على مجلس نواب الشعب هذا الالتزام والواجب الدستوري لإرساء المحكمة الدستورية أو على الأقل إصدار قانون هذه المحكمة في أجل لا يتجاوز 26 أكتوبر 2015.

–       إعتبار الحاجة إلى المحكمة الدستورية، خاصّة وأنّ تنزيل الدستور في نصوص تشريعية بالأساس يستوجب إرساء هذه المحكمة التي ستتولى مسايرة هذا التنزيل ومراقبة مدى تطابقه واحترامه لنص الدستور. وهو ما لا يمكن أن تقوم به الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين نظرا لمحدودية صلاحياتها ووضعيتها المؤقتة.

–       اعتبارات تاريخية أيضا، ذلك أن مطلب الرقابة الفعلية والجدية على دستورية القوانين رافق أجيال عديدة من رجال القانون ونسائه ومن المدافعين والمدافعات عن حقوق الإنسان. فالتنصيص على إحداث محكمة دستورية صلب دستور 2014 يعتبر انتصارا هاما لهذه المسيرة. وللتذكير فإن ضمان علوية الدستور حسمت في مناقشات المجلس القومي التأسيسي ]1956-1959[برفض الرقابة على دستورية القوانين وإسناد هذه الضمانة لرئيس الجمهورية "… الضامن لاحترام الدستور…" ] الفصل 41 من دستور  الأول من جوان 1959[. هذا التوجه الأصلي في دستور 1959 لم يمنع إثارة مسألة دستورية القوانين أمام القضاء في إطار الدفع بعدم الدستورية سواء أمام القضاء الاستثنائي] محكمة أمن الدولة سابقاً[أو القضاء العادي. فبالنسبة للأولى، كان موقفها واضحا منذ قرارها الصادر في 24 أوت 1974 في قضية العامل التونسي ثم في 19 أوت 1977 في قضية "حركة الوحدة الشعبية" وكذلك في 21 ديسمبر 1982 في قضية "حركة الاتجاه الإسلامي". حيث رأت المحكمة أنه "ليس من دور القاضي كما يراه بعض الفقهاء أن ينتصب للقضاء في عدالة قانون من القوانين أو في صبغته الاجتماعية أو الاقتصادية وليس في دوره أن يقدر دستورية القانون أي "يقدر ما للنص التشريعي من قيمة سياسية…".

إلا أن هذا الموقف شهد تحولا جذريا أمام بعض محاكم القضاء العدلي وتحديدا الدائرة الجناحية بالمحكمة الابتدائية بالقيروان في 24 ديسمبر 1987 التي أقرت "أن المحكمة تقر لنفسها بثبوت حق التصدي لبحث دستورية القوانين عند الدفع أمامها، بعدم الدستورية إستنادا إلى أن هذه الرقابة هي من طبيعة عمل القضاء…". وهو ما أيدتها فيه محكمة الاستئناف بسوسة في 11 أفريل 1988.

إلا أن هذا التوجه الذي استند على فترة الانفتاح النسبي وتغيير الحكم الذي عاشته تونس في تلك المرحلة[1987]  قد جوبه سريعا بموقفين: سياسي من ناحية وقضائي من ناحية أخرى. فعلى المستوى السياسي تم إحداث المجلس الدستوري للجمهورية بالأمر عدد1414 المؤرخ في 16 ديسمبر 1987. وهو مجلس استشاري يمد رئيس الجمهورية برأيه في دستورية مشاريع القوانين التي يعرضها عليه. أما على المستوى القضائي، فقد تصدت محكمة التعقيب ] المحكمة العليا في الدولة[لهذا التوجه وفي وقت قياسي حيث أصدرت قرارها عدد 2797  المؤرخ في الأول من جوان 1988 ] أي في أقل من شهرين من صدور حكم محكمة الاستئناف[ولتؤكده في نفس الشهر في 23 جوان 1988 حيث اعتبرت أنه "لا يجوز للقضاء العادي المكلف أساسا بتطبيق القوانين أن يتطرق إلى موضوع دستوريتها لان ذلك يؤول به إلى الحكم عليها الأمر الذي يشكل تجاوزا لحدود سلطته".

هذا التعديل في منع القضاة من النظر في دعاوى الدفع بعدم دستورية القوانين كان مقصودا حتى لا يفتح الباب أمام القضاء للقيام بهذه الرقابة وجعل المجلس الدستوري] الهيكل الاستشاري لرئيس الجمهورية[هو الوحيد المخول له قانونا تناول هذه المسألة كلما طلب منه رئيس الجمهورية ذلك. هذا المجلس عرف تطوراً على مستوى شكله وصلاحياته من تاريخ إنشائه في 16 ديسمبر 1987 إلى حين حله بموجب المرسوم عدد 14 المؤرخ في 23 مارس 2011[1]. هذه التعديلات والتنقيحات التي عززت صلاحيات المجلس بتوسيع نطاق تدخله ونشر آرائه بالرائد الرسمي… إلا أن ذلك لم يصبغ على المجلس طابع الاستقلالية ولم يمنع الصورة المسيسة له، خاصة وأن تركيبته غلب عليها التعيين السياسي.

وبالرغم من ذلك، كان للمجلس الدستوري إسهامه في رقابة دستورية مشاريع القوانين وتصويب العديد منها في اتجاه احترام الحقوق والحريات. إلا أنه وبعد انتخاب المجلس الوطني التأسيسي في 26 أكتوبر 2011 وبدء نشاطه المتعلق  بصياغة مسودات ومشاريع الدستور، فإن التوجه العام لكل نواب المجلس كان نحو إرساء "محكمة دستورية" وهو ما أقرته المسودة الأولى لمشروع الدستور منذ 6 اوت 2012 وتأكد في مسودتي 14 ديسمبر 2012 و22 أفريل 2013 ثم في مشروع الدستور المؤرخ في الأول من جوان 2013 وتم إقراره في دستور 27 جانفي 2014.

هذا التذكير التاريخي المقتضب بمراحل رقابة الدستورية في تونس وإن كانت أهميته التاريخية ثابتة، إلا أن انعكاساته على الاختيار الدستوري من ناحية وعلى النصوص المقترحة من النواب ومن الحكومة وعلى جانب من الحوار الذي بدأ حول مشروع المحكمة الدستورية، تبدو واضحة اليوم على عديد المواقف والآراء[2].

فكيف انعكس ماضي رقابة الدستورية في تونس على حاضرها؟ وما هي أهم المخاطر والعوائق التي تحيط اليوم بإرساء المحكمة الدستورية وتحديد نظام رقابة الدستورية؟

إن الماضي الحذر من رقابة دستورية القوانين لا زال يلقي بظلاله على واقعنا الحالي فيها يتعلق بالأساس بإرساء المحكمة الدستورية. فبالرغم من التوافق ] وأحيانا الإجماع[الآلي على وجوب إحداث محكمة دستورية تعهد لها مهمة رقابة الدستورية من ناحية وضمان علوية الدستور إلا أن ذلك لم يمنع الهياكل السياسية ]  الأحزاب ونواب المجلس التّأسيسي [من محاولات تقييد هذه المحكمة وإضفاء منحى سياسي عليها قد ينتظر منها خدمة الأغلبية الحاكمة.هذه المحاولات والتي انعكست على النص الدستوري تنعكس اليوم أيضا في المشاريع والمقترحات المقدمة إلى مجلس نواب الشعب.

1. انعكاسات الماضي علىطبيعة المحكمة وتركيبتها

أدرج الدستور المحكمة الدستورية في باب السلطة القضائية "الباب الخامس –الفصول 102 إلى 124" وهو ما يجعلها من حيث المبدأ خاضعة للمنظومة القضائية لتكون جزءا منها ولتخضع أيضا للمبادئ العامة التي تحكم هذه السلطة. إلا أن هذا التوجه والذي تم التداول فيه مطولا داخل المجلس الوطني التأسيسي بين من رأى بوجوب مناقشة المحكمة الدستورية في باب خاص بها وعدم إدراجها ضمن باب السلطة القضائية نظرا لخصوصياتها وعدم اقتصارها على دور قضائي بحت وتقليدي، وبين من رأى بوجوب تضمينها في باب السلطة القضائية نظراً لكونها محكمة بالأساس تلجأ إليها المحاكم أيضا في الدفع بعدم الدستورية. وقد رسا الاختيار على هذه الفرضية.

إلا أنه وبالنظر في التركيبة وفي طرق التعيين والاختيار، فإننا نلاحظ إمكانية سيطرة الأطراف  السياسية ] الأغلبية الحاكمة[على تركيبة هذه المحكمة. وهو ما كرسه الدستور من ناحية وأكده كل من مشروع الحكومة ومقترح النواب المتعلقان بالمحكمة الدستورية.

على مستوى التعيين والاختيار

 ينص الدستور صراحة في الفصل 118 منه على أنّ سلطات التعيين لأعضاء المحكمة هم رئيس الجمهورية ومجلس نواب الشعب والمجلس الأعلى للقضاء حيث يعين كل منهم 4 أعضاء من مجموع 12 عضواً. هذه الطريقة في الاختيار تجعل من 3/2 أعضاء المحكمة معينين من قبل هيئات سياسية وهو ما يؤكد إرادة جعل المحكمة بتركيبة ذات ولاءات سياسية للأغلبية الحاكمة. ويتعمق ذلك عندما نرى بأن رئيس الجمهورية ] كفرد واحد [يعين ثلث الأعضاء مباشرة وبصفة انفرادية. بينما وبالنسبة للسلطتين الأخيرتين، فإنّ التعيين سيطرح إشكال الإجراءات المتبعة لذلك. ففي الحالتين، نحن أمام مجلسين. ولذلك ذهب كل من مشروع الحكومة ومقترح النواب إلى وجوب انتخاب الأعضاء الراجعين لكل مجلس. فبالنسبة لمجلس نواب الشعب، يعود لكل كتلة نيابية أو لغير المنتمين لكتل ترشيح أربعة أسماء ويتم التصويت على كافّة المرشحين أمام الجلسة العامة لاختيار الأربعة بالأغلبية المعزّزة أي أغلبية الثلثين.

هذه الطريقة والتي أريد منها تشريك الحساسيات السياسية داخل المجلس لن تعزز في نهاية الأمر إلا المحاصصة الحزبية والسياسية ويكون في نهاية الأمر، اختيار الأربعة أعضاء عائدا  للأغلبية الحاكمة أو للكتلتين الكبريين في المجلـس ]فصل 9 من مشروع  الحكومة فصل 6 من مقترح النواب [.
أما بالنسبة لكيفية تعيين الأعضاء من قبل المجلس الأعلى للقضاء] ما يزال المجلس غير موجود[، تكون الترشحات حرة، تتقبلها لجنة فرز في المجلس ثم يتم التصويت من قبل الجلسة العامة للمجلس الأعلى للقضاء بأغلبية ثلثي أعضائها. ومن المرجح أن يكون الأعضاء الذين ينتخبهم المجلس الأعلى للقضاء أقل الأعضاء خضوعا للمحاصصة السياسية والحزبية.

وبالمحصلة فإن طريقة الاختيار والتعيين هذه قد لا تعطي في نهاية الأمر إلا تركيبة قد لا تتمتع بالمصداقية وستخضع للتشكيك فيها.

1.2. على مستوى شروط الترشح:

في تحديده لشروط الترشح لعضوية المحكمة، لم ينص الفصل 118 من الدستور الأعلى على شرط الكفاءة، والتي حاول نفس الفصل تحديدها موضوعيّا بعشرين سنة من الخبرة على الأقل بالنسبة للمختصين في القانون والذين يمثلون ثلاثة أرباع الأعضاء] أي 9 من 12[. وترك الفصل للقانون المنظم للمحكمة تحديد غير ذلك من الشروط والخصائص واجبة التوفر في الأعضاء.

وبالنظر في المشروع المقدم من الحكومة ومقترح النواب، نلاحظ تأكيد هذين النصين على شروط عديدة منها ما يهدف إلى إرساء قدر هام من الموضوعية في اختيار الأعضاء ومنها ما يمكن قراءته على أنه ذا طابع إقصائي ويخل بمبدأ المساواة ويعرض تاليا هذا المشروع إلى عدم الدستورية.
فبالنسبة للشروط الموضوعية، ذهب كل من المشروع والمقترح إلى تعميم شرط الخبرة على جميع المترشحين بعشرين سنة سواء كانوا من المختصين في القانون أو من غيرهم. وهو ما لم ينص عليه الدستور الذي حصر شرط العشرين سنة في المختصين في القانون فقط] الفصل 118[وتم أيضا اشتراط شهادة الدكتوراه لهؤلاء غير المختصين في القانون] الفصل 6 مشروع الحكومة والفصل 3 مقترح النواب[وهو ما من شأنه أن يضيف شروطا لم ينص عليها الدستور.

ويتأكد ذلك من اشتراط رتبة أستاذ تعليم عال ]  أعلى رتبة جامعية [بالنسبة للمدرسين الجامعيين والانتماء إلى أعلى رتبة بالنسبة للقضاة، هذه الشروط والتي أرادت أن تفصل شرطي الكفاءة والخبرة المنصوص عليهما في الدستور ]  الفصل 118 [قد تؤدي إلى جانب شروط أخرى إلى تكريس عدم المساواة بين المترشحين من ناحية وإقصاء مترشحين آخرين.

–                   إمكانية الإقصاء وعدم احترام مبدأ المساواة وعدم السعي إلى تحقيق التناصف: أحدث كل من المقترح والمشروع مجموعة كبرى من الشروط التي تهدف  بحسب واضعيها إلى ضمان "الاستقلالية والحياد والنزاهة" وذلك استنادا إلى أن قضاة المحكمة الدستورية هم قضاة ويخضعون بذلك لنفس الشروط التي يخضع لها القضاة عموما والمبينة بالفصلين 102 و103 من الدستور في باب السلطة القضائية والتي أدرجت ضمنها المحكمة الدستورية. وبالنظر إلى هذه الشروط، نلاحظ أنها تتعلق بالأساس بعدم تحزب المترشحين منذ 10 سنوات على الأقل وعدم انتمائهم إلى المجلس الدستوري المنحل ولا للهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين وألا يقل سن المترشح عن 45 سنة ودونما تنصيص بأي حال من الأحوال على التناصف بين الرجال والنساء في الترشحات والتعيينات.

فبالنسبة لشروط الحياد والنزاهة، تتوجب الملاحظة بأن ذكرهما في الفصل 103 من الدستور جاء للتأكيد عليهما عند ممارسة وظيفة القضاء وليس خارجها. ثم إن دور المحكمة الدستورية ليس فقط دورا قضائيا قانونيا بالمعنى الضيق ]  رقابة مدى التطابق مع الدستور [ ورقابة مدى ملاءمة النصوص لروح الدستور وقراءة الدستور في معانيه المختلفة: السياسية والاجتماعية والحقوقية وتأقلمه مع واقع الحال… وهو ما يستوجب خبرة قانونية ولكن أيضا خبرة اجتماعية، انتربولوجية، اقتصادية وسياسية. وهو ما استوجب تمثيل خبرات غير قانونية وغير قضائية في المحكمة. ولذا يكون فصل قضاة المحكمة على الحياة السياسية الحزبية وإن كانت غايته الأولى تجنيب تسييس المحكمة، إلا أنه سيحرم هذه الأخيرة من كفاءات كثيرة مارست العمل السياسي والحزبي وحتى القانونية: فما الجدوى عندها من إقصاء أعضاء المجلس الدستوري سابقا؟ أو أعضاء الهيئة الوقتية؟ ولم لا يتم أيضا في هذه الحالة منع أعضاء الحكومات السابقة من الترشح وأعضاء المجالس المنتخبة السابقة؟ ]بما في ذلك غير المنتمين للأحزاب/ المستقلين؟[ثم إن التدقيق في شروط الخبرة والكفاءة باشتراط رتب وظيفية دون غيرها ]  أستاذ تعليم عال، أعلى رتبة بالنسبة للقضاة [فاشتراط الرتب الادارية والشهائد العلمية] دكتوراه[وإن كان فيه قدر من الموضوعية إلا أنه قد يقصي ذوي خبرة في المجالات القانونية والدستورية وغيرها من الاختصاصات.
أما فيما يتعلق بمسألة التناصف بين الجنسين، فإن عدم اقرارها يشكل خروجاً عن الفصل 46 من الدستور أكد بوضوح على وجوب ضمان الدولة لتكافؤ الفرص والسعي إلى تحقيق التناصف بينهما في المجالس المنتخبة. وبما أن توجه كل من المقترح والمشروع إلى وجوب  انتخاب ثلثي أعضاء المحكمة (بالاقتراع داخل كل من مجلس نواب الشعب والمجلس الأعلى للقضاء)، فكان من الواجب مراعاةً لمقتضيات الفصل 46 التنصيص القانوني على وجوبه ثم وضع الإجراءات والضمانات الكفيلة بتحقيق تكافؤ الفرص والتناصف بين المرأة والرجل. وهو ما لم يتمّ.

أما شرط السن، فإننا نلاحظ أن كلا النصين اشترطا السن الدنيا (45 سنة) من دون اشتراط قصوى للترشح. وكان من الأفضل عدم التنصيص على سن دنيا والاكتفاء بالخبرة، حتى يتم احترام مبدأ المساواة من ناحية وعدم التمييز على أساس السن.
 
انعكاسات الماضي على مشمولات المحكمة الدستورية

عهد الدستور للمحكمة الدستوريّة جُملةً من الصّلاحيات التي تتركز أساساً في محورين: رقابة دستورية مجموعة من النصوص القانونية والمساهمة في تنظيم ومتابعة العلاقة بين السلط في الدولة. هذا الاختيار يعكس مدى التطور الذي وصلت اليه مراحل رقابة الدستورية في تونس منذ صدور أمر 16 ديسمبر 1987 المنظم للمجلس الدستوري. وبالمقابل يتواصل الحذر الشديد إزاء دور القضاء العادي في رقابة الدستورية.

2.1. تشابه الصلاحيات مقارنة بالهيئات السابقة

بالرجوع إلى صلاحيات المحكمة الدستورية نلاحظ التشابه الكبير مع ما كان يضطلع به المجلس الدستوري سابقا وما تقوم به الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين حالياً. ويبدو ذلك من خلال الرقابة على تعديل الدستور وعلى القوانين وعلى المعاهدات. ويتجلى نفس الحذر إزاء المحكمة الدستورية على أصعدة عدة، سواء بما يتعلق بطرق اللجوء اليها ومدى الرقابة التي تمارسها (المطابقة أو الملاءمة للدستور) أو بما يتعلق بآثار الرقابة التي تمارسها ومدى الالتزام بها من قبل مختلف السلط العمومية.

فبالنسبة للجوء إلى المحكمة الدستورية، نلاحظ أنها مقتصرة على رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة و30 عضوا من أعضاء مجلس نواب الشعب] الفصل 42 مشروع الحكومة والفصل 36 مقترح النواب[وكذلك المحاكم في إطار الدفع بعدم الشرعية.
وهذا الأمر يطرح مسائل هامة عدة:

–        من حيث عدد النواب الذي يحق لهم اللجوء إلى المحكمة: نلاحظ أن العدد 30 نائباً، يعتبر في المطلق عدداً معقولاً، فهو لا يتجاوز نسبة 14%من عدد النواب (البالغ 217). إلا أن التجربة الحالية للهيئة الوقتية لرقابة دستورية مشاريع القوانين وخاصة بعد انتخاب مجلس نواب الشعب وتقارب الكتلتين الكبيرتين في المجلس لتكوين ائتلاف حكومي أصبح عدد نواب المعارضة قليلا جدا (قد لا يبلغ 30 عضوا في أغلب الحالات). وهو ما شهدناه عندما تمت المصادقة على مشروع قانون المجلس الأعلى للقضاء حيث لم تتمكن المعارضة من جمع الثلاثين عضوا إلا بمساهمة عددمن نواب الائتلاف الحاكم وهو ما كان من شأنه أن يمرر قانونا غير دستوري ليصبح نافذا ولا يمكن الطعن فيه لاحقا إلا في إطار الدفع بعدم الدستورية. هذه التجرية برهنت على أن عدد 30 نائبا وإن كان عددا معقولا إلا أنه قد يتحول إلى عائق أمام رقابة الدستورية. ولذا، كان من الأجدر إقرار حق اللجوء إلى المحكمة لكل كتلة نيابية. إلا أن هذه الفرضية تستوجب اليوم تعديلا دستوريا وهي مسألة غير مطروحة في الوقت الراهن. فكيف يمكن تجاوز هذه النقيصة دون تحوير للدستور من خلال القانون الذي سينظم المحكمة الدستورية؟

–       من الملاحظ أن الدستور لم يشر تماما إلى امكانية ان تنظر المحكمة تلقائيا في مدى دستورية النصوص القانونية، إلا أنه لم يمنع عنها ذلك بل أقر في الفصل 120 بأنه: "تختص المحكمة دون سواها بمراقبة الدستورية…". وفي هذا الإطار يمكن للقانون المنظم للمحكمة أن ينص على امكانية تعهدها من تلقاء نفسها بالنظر في دستورية مشاريع القوانين (على الأقل الأساسية) التي لم تعرض عليها في الآجال، ويكون تعهدها قاطعا لآجال الختم والنشر وتخضع في ذلك لنفس اجراءت التعهد الأخرى. وهو ما من شأنه أن يتجاوز فرضية عدم الطعن في دستورية مشروع قانون ما وتمريره  مع وجود شبهات قوية على عدم دستوريته وهو ما حصل مؤخرا مع القانون الصادر في 25 جويلية 2015 والمتعلق بمكافحة الارهاب وتبييض الاموال حيث تمت المصادقة عليه وختمه ونشره دون أي طعن في دستوريته بالرغم من الانتقادات الشديدة له واحتوائه على فصول تتعارض مع أحكام ومقتضيات الدستور. والخوف  من تكرر هذه الحالة وارد جدا خاصة مع تقارب الكتلتين البرلمانيتين الكبيرتين والقادرتين على تمرير القوانين بأغلبية مريحة دونما إمكانية (عدديا) الطعن في دستوريتها.

–      الانطباع العام هو أن للمحكمة الدستورية ولاية عامة على رقابة كل النصوص القانونية الصادرة عن مجلس نواب الشعب من مشاريع تعديل الدستور إلى القوانين بنوعيها وإلى النظام الداخلي لمجلس نواب الشعب. إلا أن هذا الإنطباع العامّ يتوجب علينا تنسيبه ذلك أن ولاية المحكمة الدستورية غير اجبارية إلا في حدود مبادرات تعديل الدستور (الفصل 144 من الدستور) والنظام الداخلي  لمجلس نواب الشعب (فصل 120 المطة 5 من الدستور). ومن شأن هذا الأمر أن يشكل خطرا كبيرا على مجموع الحقوق والحريات التي يمكن للمجلس أن  ينتقص منها وأن يصدر في شأنها قوانين مخالفة للدستور. وفي ذلك نزول إلى ما دون  دستور 1959 فيما يتعلق  بالمجلس الدستوري المنحل حيث كانت استشارية المجلس وجوبية "بالنسبة لمشاريع القوانين الأساسية ومشاريع القوانين المنصوص عليها بالفصل 47 من الدستور ومشاريع القوانين المتعلقة بالأساليب العامة لتطبيق الدستور وبالجنسية وبالحالة الشخصية وبالالتزامات وبضبط الجرائم والعقوبات المنطبقة عليها وبالإجراءات أمام مختلف أصناف المحاكم وبالعفو التشريعي وبالمبادئ العامة لنظام الملكية وللحقوق العينية وللتعليم وللصحة العمومية وللشغل وللضمان الاجتماعي… والمعاهدات المنصوص عليها بالفصل 2 من الدستور…". هذا الاختيار الدستوري للمحكمة الدستورية والذي انعكس في كل من مقترح النواب ومشروع الحكومة يعتبر اختيارا حذرا لأسلوب الرقابة على الدستورية يترجم الخوف من ارساء محكمة دستورية حقيقية. وهو حذر انعكس أيضا على مستوى الخشية من دور القضاء العادي في رقابة الدستورية وحصره في الدفع بعدم الدستورية أمام المحكمة التي تتولى دون سواها النظر في ذلك. 
 
–      2.2. الحذر الشديد من دور القضاء العادي:

بالنظر إلى الاختيار الدستوري لرقابة دستورية القوانين كما فصله كل من مقترح النواب ومشروع الحكومة، نلاحظ أنه أراد الحسم بصفة نهائية في دور القضاء العادي في رقابة دستورية القانون. فالفصل 120 من الدستور يمنح المحكمة الدستورية اختصاصاً حصرياً في رقابة دستورية القوانين والمعاهدات وهي المختصة حصراً في رقابة الدستورية عن طريق الدفع في إطار الاحالات التي تقوم بها المحاكم العادية. وبذلك يقطع الدستور الطريق أمام امكانية نظر المحاكم العادية في دستورية القوانين عن طريق الدفع وفي ذلك مواصلة للتوجه القديم كما سبق بيانه.

وبالرجوع إلى الدستور، فإننا نلاحظ بأن (الفصل 121) قد أحاط الدفع بعدم الدستورية بمجموعة من الشروط والقيود والتي فصّلها كل من المقترح والمشروع في اطار التضييق على القضاء العادي وسلبه أي صلاحية فعلية في رقابة دستورية القوانين والمعاهدات.

فالمحاكم العادية تكتفي بإحالة المطالب المتعلقة بالدفع بعدم الدستورية والتي يقدمها أحد الخصوم]  الفصول 51 إلى 58  مشروع الحكومة والفصول 55 إلى61  مقترح النواب[ . ويضيف الفصل53 من مشروع الحكومة أن هذه الاحالة تتم فورا وليس للمحكمة العادية أي دور لا في تكييف المطالب أو في ابداء رأيها في وجاهة الطلب.

وبذلك لا يمكن للمحاكم العدلية أن تطلب من تلقاء نفسها الدفع بعدم الدستورية. وهي نقيصة كان يتوجب تجاوزها لتمكين المحاكم من طلب موقف المحكمة الدستورية في قانون ما في غياب طلب من الخصوم من ناحية وعند وجاهة المطلب من ناحية أخرى.

إلى جانب ذلك، فإنّه يمكن أن نتصوّر دور المحاكم العدلية أيضا في إحالة مطالب الدفع بعدم الدستورية. فبالرجوع إلى نص الدستور، نلاحظ أنه لم يحدد دور المحاكم العدلية بل اكتفى بذكر أنها تحيل الدفوعات بينما نلاحظ أن مشروع الحكومة ينص على أنه "على المحاكم احالة المسألة فورا على المحكمة الدستورية…" (الفصل 53 مشروع). وهو ما من شأنه ان يغرق المحكمة الدستورية خاصة في الفترة الاولى من عملها بآلاف الدفوعات والتي يتوجب عليها البت فيها في أجل 6 أشهر على أقصى حدّ. ولتجاوز هذه الفرضية، (الواردة جدا) يمكن الاقرار ببعض الدور للمحاكم العادية في فحص المطالب المقدمة امامها قبل عرضها على المحكمة الدستورية، لغربلتها والابقاء على الجدي منها. ويمكن عندها للمحاكم العادية القيام بدور أكثر فاعلية وجعل المحكمة الدستورية أكثر نجاعة.

إن التنصيص على المحكمة الدستورية صلب دستور 27 جانفي 2014 هو من المكاسب الهامة لضمان علوية الدستور وتفعيله وفرض رقابة على السلطة التشريعية. إلا أن إرادة السلطة التأسيسية واختياراتها لم تخلُ من الحسابات السياسية "الظرفية".وقد تجلى ذلك بشكل خاص في كيفية اختيار أعضائها.

ولذا يكون على مكونات المجتمع  المدني ان تكون يقظة وان تدفع باتجاه التصدي للمشاريع التي قد تسيس المحكمة وتفقدها دورها الأساسي أو تعطل أعمالها لاحقا.
 
 
قائمة المراجع والمصادر:
 
·        مصادر باللغة العربية:
–       دستور الجمهورية التونسية، الباب الخامس، القسم الثاني، المحكمة الدستورية، الفصول 118 إلى 124.
–       مقترح قانون اساسي متعلق بالمحكمة الدستورية، مقترح النواب مقدم في 2 جوان 2015 يحتوي على 89 فصلا.
–       مشروع قانون أساسي يتعلق بالمحكمة الدستورية، قدمته الحكومة في الأول من جويلية 2015 يحتوي على 79 فصلا.
–       محمد رضا بن حماد ، تأويل المجلس الدستوري للأحكام الدستورية، مجموعة دراسات مهداة إلى الاستاذ العربي هاشم تونس 2006، ص 1167.
–       محمد كمال شرف الدين، رقابة دستورية القوانين والحقوق الأساسية، المجلة القانونية التونسية ، 2007 ، ص 29.
 
·        مراجع باللغة الفرنسية
Ouvrage :
–          Mdhafar (Z), Le conseil constitutionnel tunisien, Tunis, CREA, 1998.
Articles :
–          Abdennadher (F), Le conseil constitutionnel, Tunis, ENA, Revue Servir, n°33, 2002, p. 47.
–          Amor (A), La justice constitutionnelle composante essentielle de l’Etat de Droit, in Justice Constitutionnelle, Tunis, CERP, 1995, p. 5.
–          Ben Achour (R), Le conseil constitutionnel tunisien, in Mélanges J. Robert, Paris, Montchrestien, 1998, p. 455.
–          Ben Achour (R), Le contrôle consultatif de la constitutionnalité des lois par le conseil constitutionnel tunisien, in Mélanges J. Giquel, Paris, Montchrestien, 2008, p. 21.
–          Ben Hassen (I), Etat de droit et contrôle de la constitutionnalité, in Constitution et Etat de droit, Tunis, ATDC, 2010, p. 199.
–          Ben Mrad (H), Commentaire du décret instituant le conseil constitutionnel de la République, Tunis, AJT, n°1-2, 1989, p.92.
–          Ben Mrad (H), La justice constitutionnel, in Les aspects récents du Droits constitutionnel, Tunis, Actes du colloque, Faculté de droit et des sciences politiques de Tunis, 2005, p. 292.
–          Bertagi (B), Le conseil constitutionnel tunisien et la hiérarchie des normes, in Le droit constitutionnel normatif : développements récents, Bruylant-Bruxelles, 2009, p. 174.
–          Tabei (M), Les droits constitutionnels et le conseil constitutionnel tunisien, in Les droits constitutionnels, Tunis, ATDC, 2010, p. 199.
Mémoires de recherche :
–          Sayyari (M), Le conseil constitutionnel en Tunisie, Mémoire de DEA en sciences juridiques fondamentales, Faculté des sciences juridiques, politiques et sociales de Tunis, 1998-99.
–          Tabei (M), Les normes de référence du contrôle de la constitutionnalité dans les avis du  Le conseil constitutionnel, Mémoire de Master de recherches en Droit public et financier, Faculté des sciences juridiques, politiques et sociales de Tunis, 2007.
 



[1] بعد إنشائه بأمر، تمت إعادة تنظيمه ومنحه الشخصية القانونية بمقتضى قانون ] 18 أفريل 1990 [ثم تمت دسترة المجلس وإفراده بباب خاص في الدستور ]  الباب التاسع ، الفصول 72 إلى 75 [بموجب تعديل 6 نوفمبر 1995 ، ]القانون الدستوري عدد 90[. وأعيد تنظيمه من  جديد  بموجب قانون الأول من أفريل 1996. وتواصلت عمليات الدسترة وإعادة تنظيم المجلس إلى حدود آخر قانون تعلق به وهو القانون الأساسي عدد 52 المؤرخ في 12 جويلية والذي جاء ليفعل تعديلات الدستور المدرجة بموجب القانون الدستوري عدد 51 لسنة 2002 المؤرخ في الأول جوان 2002 والمصادق عليه بالاستفتاء الجاري في 26 ماي 2002 … [.
[2]    خصصت الجمعية التونسية للقانون الدستوري مائدة مستديرة لنقاش هذه المقترحات يوم السبت 1 أوت 2015 بمقر كلية العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية بتونس، شارك فيها الجامعيون والقضاة ووزير العدل ووزير الدفاع، ونشطاء المجتمع المدني…
انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد البرلماني ، تونس



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني