من العدالة الانتقالية الى المصالحة الوطنية في تونس: قوة المال تفرض قواعد المصالحة


2015-07-24    |   

من العدالة الانتقالية الى المصالحة الوطنية في تونس: قوة المال تفرض قواعد المصالحة

صادق مجلس الوزراء التونسي بجلسته التي انعقدت يوم 14-07-2015 على مشروع  قانون المصالحة الوطنية. وسينظر تبعا لذلك مجلس نواب الشعب في مشروع القانون بوصفه مقترحا تشريعيا حكوميا.ويهدف هذا المشروع الذي يتعلق حسب عنوانه "بإجراءات خاصة بالمصالحة في المجال الاقتصادي والمالي" إلى إقرار تدابير خاصة بالانتهاكات المتعلقة بالفساد المالي والإعتداء على المال العام تفضي إلى غلق الملفات نهائيا وطيّ صفحة الماضي تحقيقا للمصالحة".

تم تبرير اقتراح مشروع القانون الذي أعدته رئاسة الجمهورية بالحاجة الى "تهيئة مناخ ملائم يشجع على الاستثمار وينهض بالاقتصاد الوطني ويعزز الثقة بمؤسسات الدولة". وكانت تلك ذاتها المبررات التي قدمها رئيس الجمهورية التونسية باجي قائد السبسي في الكلمة التي ألقاها في 20-3-2015 بمناسبة مبادرته للمصالحة الوطنية. فقد جاء فيها "أنه يدعو لمصالحة وطنية" تضمن حقّ الجميع وتفتح الطّريق للإسهام الجدّي في البناء بفضل رفع جميع القيود وتذليل العقبات أمام رجال الأعمال المعنيّين لكي يستعيدوا نشاطهم بعد إبرام الاتّفاقيّات الضّروريّة".

يعلن مشروع القانون كهدف له تسوية وضعية رؤوس أموال اتهمت بالضلوع في منظومة الفساد المالي قبل الثورة، علاوة على العفو على سامي إطارات الدولة الذين تورطوا قبل الثورة في قضايا فساد تمثلت في محاباة دوائر الفساد المالي.

ويقترح لتحقيق تلك المصالحة الاجراءات الآتية:

أولاً، عفو تشريعي غير مشروط على الموظفين العموميين وأشباههم ممن يواجهون ملاحقات قضائية من أجل أفعال تتعلق بالفساد المالي وبالاعتداء على المال العام باستثناء تلك المتعلقة بالرشوة وبالاستيلاء على الأموال العمومية. وينهي هذا العفو في حقهم  كافة التتبعات ويوقف تنفيذ العقوبات في صورة صدور أحكام.

ثانياً: تكوين لجنة على مستوى رئاسة الحكومة تتكون من ستة أعضاء، أربعة منهم يمثلون جهات حكومية وعضوين يمثلان هيئة الحقيقة والكرامة. ويكون دور هذه اللجنة البتّ في مطالب الصلح التي يقدّمها كل شخص حصلت له منفعة من أفعال تتعلق بالفساد المالي أو بالاعتداء على المال العام. وتتعهد اللجنة بمطالب الصلح التي تقدم إليها خلال ستين يوماً من إعلان تعيين أعضائها. وتبت في تلك المطالب في أجل لا يتجاوز ثلاثة أشهر من تاريخ تعهدها. ولها أن تمدد أجل نظرها بقرار معلل لمرة واحدة. ويؤدي تعهد لجنة المصالحة التي تنتصب برئاسة الحكومة بمطلب الصلح الى إيقاف مختلف
الاجراءات القضائية وتعليق مدد التقادم. وتبت اللجنة في موضوع تعهدها بقرار "يتخذ بالتوافق وفي حالة التعذر بالأغلبية مع اعتبار صوت رئيسها مرجحا عند تعادل الاصوات". ويؤدي القرار إلى إلزام المنتفع بالصلح بأن يدفع لصندوق الودائع والأمانات مبلغاً مالياً "يعادل قيمة الأموال العمومية المستولى عليها أو المنفعة المتحصل عليها تضاف إليها نسبة 5 % عن كل سنة من تاريخ حصول ذلك". ويتم توظيف عائدات الصلح "في مشاريع البنية التحتية أو التنمية الجهوية أو البيئة والتنمية المستدامة أو تدعيم المؤسسات الصغرى والمتوسطة أو أي مشاريع أخرى ذات صبغة اقتصادية بمناطق التشجيع على التنمية الجهوية."

ثالثا: ابرام صلح مع من يتهمون بارتكاب مخالفات الصرف أي من هربوا أموالا خارج البلاد التونسية أو من يمسكون أموالا أجنبية بتونس لم يتم التصريح  بها. ويكون إمضاء الصلح مقابل إرجاع الأموال المهربة إلى تونس أو التصريح بالأموال الأجنبية غير المصرح بها حسب الحالة مع دفع مبلغ يساوي 5 بالمائة من مجمل المبالغ موضوع المخالفة لفائدة الدولة تودع بدورها في صندوق الأمانات والودائع.

استند أنصار فكرة مشروع قانون المصالحة إلى ضعف نسب نمو الاقتصاد التونسي بعد الثورة ليثبتوا ملاءمة مشروعهم. فذكروا أن من أسباب الأزمة الاقتصادية التي تمر بها تونس ضعف نسق  الاستثمار وأن ضعف نسق الاستثمار يعود الى خوف جانب من رجال الأعمال من المحاسبة. وفي هذا الإطار، اعتبر وزير أملاك الدولة والشؤون العقارية التونسي حاتم العشي "أن هناك  رجال أعمال أجرموا في حق الدولة. ولكن لا فائدة للدولة في سجنهم، لأن البلاد بحاجة للمصالحة حتى تعيد الثقة لرجال الأعمال للعودة الى العمل دون أن يشعروا بأن وراءهم تتبعات قضائية ولكن شريطة أن يعيدوا الأموال التي نهبوها من الدولة"[1]. وبلور مبررات ذات المصالحة محافظ البنك المركزي التونسي الشاذلي العياري  الذي اعتبر "أن ملف استرجاع الاموال المنهوبة بالخارج لا يحقق تطورا وانه من الحلول المقترحة لتجاوز جموده اجراء مصالحة مع من هربوا الاموال مقابل ايقاف التتبعات العدلية".

تم التسويق لمشروع المصالحة باعتبارات مصلحية ترغب في المصالحة، على اعتبار أنها السبيل للرفاه الاقتصادي. الا أن هذا الخطاب اصطدم باعتراضات كبرى على فكرة المشروع كان مصدرها الأساسي هيئة الحقيقة والكرامة وجانب من قوى المعارضة السياسية.

اعتبر معارضو المشروع أن طرح فكرة المصالحة محاولة للإنقلاب على مسار العدالة الإنتقالية وأنها تشكل من هذه الزاوية خرقاً لأحكام الدستور. فذكروا "أن الغطاء القانوني المنظم للمصالحة الوطنية موجود ويتمثل في قانون العدالة الانتقالية"[2]، بما ينفي أيّ حاجة لاقتراح مشروع قانون جديد. كما اعتبروا أن تنصيص مشروع قانون المصالحة الوطنية على أن احكامه تلغي "جميع الأحكام المتعلقة بالفساد المالي والاعتداء على المال العام الواردة بالقانون الأساسي عدد 53 لسنة 2013 المؤرخ في 24 ديسمبر 2013 المتعلق بإرساء العدالة الانتقالية وتنظيمها" يتعارض مع صريح أحكام الفصل 148 من الدستور تاسعاً الذي يحمل "الدولة واجب الالتزام بتطبيق منظومة العدالة الانتقالية في جميع مجالاتها والمدة الزمنية المحددة بالتشريع المتعلق بها"[3].

وبعيدا عن المواقف المتصارعة فيما يتعلّق بمشروع القانون المقترح، يكشف النظر في قانون العدالة الإنتقالية أن فكرة الصلح مع من يتهمون بالاثراء على حساب المجموعة الوطنية من خلال استغلال النفوذ يجد جذوره في  قانون العدالة الانتقالية. فقانون العدالة الانتقالية التونسي تمسك بعدم الإفلات من العقاب فيما يتعلق بكافة انتهاكات ما قبل الثورة كشرط للمصالحة. فقد رتّب القانون على حصول الصلح وطلب العفو التخفيف في العقوبة دون الاعفاء منها. لكنه وفيما يتعلّق بملف رجال الأعمال، تنازل عن شرط عدم الإفلات من العقاب كشرط للمصالحة.

كان الفساد المالي لدوائر الحكم الاستبدادي وما نجم عنه من اثراء مجموعة محدودة من الأفراد استغلوا قرابتهم أو علاقتهم برأس الحكم ليراكموا ثروات هامة ويحرموا البلاد من التنمية العادلة، من محركات الثورة وأسبابها. وكانت محاسبة من سرقوا ثروة الشعب من أهم شعاراتها وكان ينتظر بالتالي أن يكون تفكيك منظومة الفساد هدفاً أساسياً لقانون العدالة الانتقالية. إلا أن أهمية نفوذ دوائر المال حوّلت اهتمام العدالة الانتقالية التونسية عن الفساد المالي. وكان من ثمار هذا التحول أن تنازل قانون العدالة الانتقالية عن شرط المحاسبة والمساءلة في حق من يتهمون بالفساد المالي. وطرح قانون العدالة الانتقالية كبديل عن ذلك الصلح دون محاكمة كامتياز يخص من يتهمون بالفساد المالي.  

تنازل قانون العدالة الانتقالية عن المحاسبة في مواجهة من يمسكون مالا فاسدا وكان مبرر التنازل الحاجة لقدرة أصحاب المال الفاسد على المبادرة الاقتصادية. وبعد عامين عن التنازل الأول، تطرح الطبقة السياسية فرضية تنازل ثان يمس ركيزة ثانية من ركائز العدالة الانتقالية هي كشف الحقيقة. فمشروع قانون المصالحة يعلن "الطي السريع لصفحة الماضي" فيما يتعلق بالتجاوزات المالية كهدف له. ويضبط مشروع القانون لتحقيق هذه الغاية آجالا محددة لا تتجاوز نصف السنةمن تاريخ سنّه لتحقيق هدفه. كما أسند مشروع القانون صلاحية البت في التجاوزات وإجراء الصلح في شأنها للجنة تتكون في غالبية أعضائها من ممثلين لوزارات لا يشترط فيهم الاستقلالية ولا يتمتعون بضماناتها.

ويتعارض السعي لطي صفحة الماضي دون البحث في تفاصيله مع مقتضيات قانون العدالة الانتقالية الذي يعتبر الكشف عن الحقيقة وتفكيك منظومة الاستبداد غاية أساسية من غاياته. ويبدو بالتالي مشروع قانون المصالحة بما يقدمه من عفو غير مشروط لموظفي الدولة الذين ساهموا في الفساد أولا وفي عمله على غلق سريع للأبحاث حول الفساد دون بحث وتقصي محاولة لمنع النبش في الماضي ثانيا محاولة لمنع تفكيك منظومة الفساد وكشف حقيقتها. هذه المحاولة التي تركز مؤسساتيا واقعا معيشا يتجلى في توقف الحديث العام عن محاربة الفساد في ظل الدور المتنامي للمال الفاسد في الحياة السياسية وعدم الرغبة في مواجهة نفوذه.  

يكشف مشروع قانون المصالحة الوطنية عن عمق الأزمة التي بات يعانيها تصور العدالة الانتقالية في تونس. فهذه العدالة التي كانت "انتقائية في تصورها الأولي خضعت لنفوذ رجال المال. ولم تنجح السياسة في إرضاء من ضحّت بمبادئها لأجلهم، بل وجودت نفسها مضطرة على الانقضاض عليها مجددا فعطلوا في مرحلة أولى البحث في الفساد ليعدوا للبحث عن صلح يغطي ما انكشف من تجاوزات ويضمن عدم البحث عما خفي منها.

ويضع هذا المسار مشروع العدالة الإنتقالية التونسية في أزمة موضوعية عنوانها الجدوى من عدالة إنتقالية لا تنتهي إلى تفكيك شبكة الفساد. وهي في عمقها أزمة أخلاقية بدأت ترتسم منذ وضع قانون العدالة الانتقالية، حين صنفت انتهاكات الحقبة الاستبدادية وفق نفوذ من ارتكبوها وليس وفق خطورتها. فسعت الدولة للصلح مع من يملكون المال دون اشتراط العقاب، بينما تمسّكت في حقّ غيرهم بالعقاب كمبدأ لا يتم التنازل عنه وإن تمّ طلب العفو وحصل الصلح بين الضحية والجلاد.



[1]تونس: وزير أملاك الدولة يتحدث عن مشروع للمصالحة مع رجال الأعمال المورطين في منظومة المصادرة مقابل اعادة أموال الدولة ودفع الاستثمار في الجهات
 http://ar.webmanagercenter.com/2015/05/16/86883
[2]تصريح خالد الكريشي عضو هيئة الحقيقة والكرامة لبرنامج "ميدي شو" اليوم الخميس 26 مارس 2015 اذاعة موزاييك اف ام 
 
[3]الفصل 148 من الدستور التونسيس مادة 9                                                                                                                           
انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، تونس ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني