الحكم المحلي في تونس بين الجمهوريّتين


2015-04-27    |   

الحكم المحلي في تونس بين الجمهوريّتين

يعكس الباب السابع من الدستور التونسي الذي يتعلق بالحكم المحلي تصورا مفاده أن الدستور التونسي يُنتج ثورة جديدة عنوانها الاساسي الديموقراطية الجهوية. وتظهر اللامركزية المحلية التي يضعها النص الدستوري التونسي، كأهم هاجس يشغل تونس اليوم. فهل تنجح تونس في تنزيل نصها الدستوري على أرض الواقع، فيتولد عنها ديموقراطية محلية من شأنها أن تشكل صمام أمان في مواجهة عودة الاستبداد مستقبلا (المحرر).

الحكم المحلي أو الديمقراطية المحلية مصطلحان لم يردْ تعريفهما في النصوص القانونية، بما فيها النصوص الصادرة بعد الثورة. ومن هذه النصوص، الأوامر المتعلقة بحل المجالس البلدية[1] أو الأوامر المتعلقة بتسمية النيابات الخصوصية [2] والمرسوم عدد 14 بتاريخ 23 مارس 2011 المتعلق بالتنظيم المؤقت للسلط[3] ومرسوم 16 ديسمبر 2011 المتعلق بالتنظيم الوؤقت للسلط. وقد إقتصر هذا المصطلح على الخطاب السياسي الذي بقي عموميا. وبالامكان تعريف الحكم المحلي بأنه الديمقراطية التي تمارس على مستوى محلي ومن هيكل محلي[4]. كما بالامكان تعريفه بالإعتماد على طبيعة النظام المعمول به لتسيير الشأن العام على مستوى محلي وهو النظام الديمقراطي بما فيه من خصائص عامة بالديمقراطية وأخرى خاصة بالتنظيم اللامركزي. فالديمقراطية المحلية تعني في المقام الأول أن يُعهد للجماعات المحلية بتصريف شؤونها بإستقلاليّة في إطار دولة موحدة. وقد تكرّس هذا الأمر بموجب الدستور التونسي بما يفرض مراجعة المنظومة القانونية في جزئها المتعلق بالجماعات المحلية على المستويين الإداري والمالي. فعلى الصعيد الإداري، يفتح مشروع الدستور المجال لإحداث مستوى جديد من التنظيم اللامركزي وهو الأقاليم التي تم التنصيص عليها صراحة وضبط شكلها وتسميتها، بخلاف الدستور السابق الذي أقر في الفصل 71 منه إمكانية إحداث هياكل. وهذا التكريس الدستوري للجماعات المحلية ومن ورائه الديمقراطية المحلية، يفرض التدرج في النصوص وضمان التناسق بينها مما يدعو إلى إلغاء النصوص المعمول بها وتعويضها بأخرى تتماشى مع هذا التنظيم الجديد. وهذه النصوص هي القانون الأساسي عدد 33 بتاريخ 14 ماي 1975 المتعلق بالبلديات كما تم تنقيحه (خاصة بالقانون عدد 48 في 17 جويلية 2006)، والقانون عدد 11 بتاريخ 4 فيفري 1989 الذي يتعلق بالمجالس الجهوية. أما على الصعيد المالي فيتعلق الأمر بالقانون الأساسي عدد 35 بتاريخ 14 ماي 1975 المتعلق بميزانية الجماعات المحلية ومجلة الجباية المحلية الصادرة بالقانون عدد 11 في 3 فيفري 1993.

وتتميز الجماعات المحلية ب"الطابع الإفتراضي"[5] للإستقلالية من حيث عدم القدرة على توفير الضروريات لمتساكنيها وتصريف شؤونها بمعزل عن تدخل السلطة المركزية. ويرمي هذا البحث ليس إلى التحليق بالجماعات المحلية إلى فضاء الديمقراطية نظرا لصعوبة المسألة في ظل المعطيات الراهنة للبلاد وللموروث الإداري والقانوني والسياسي، بل نهدف إلى إعطاء جملة من الأفكار والمقترحات ليُستدلّ بها في هذا الغرض.
 
حرية الهياكل موضوع الديمقراطية المحلية
تنبني الديمقراطية المحلية على أسلوبين: النموذج التمثيلي الذي يقوم فيه ممثلو متساكني الجهة بالتكفل بشؤونهم، والنموذج التشاركي الذي يُمكّن هؤلاء من المساهمة المباشرة في إتخاذ القرار. والملاحَظ أنّ النموذجين يتكاملان في غالب الأحيان[6]. وفي تونس، تم إعتماد النموذج التمثيلي منذ الجمهوريّة الأولى وقد تمّ تدعيمه بالديمقراطية التشاركيّة في دستور 2014.

النّموذج التّمثيلي وحريّة إختيار الممثلين المحليّين
كانت الهياكل المحلية تتميّز بوجود هيئة تداول كالمجالس البلدية والجهوية يتمّ إنتخابها أو تعيينها، وبهيئة تنفيذية وهو رئيس الجماعة المحلية منتخب بصفة غير مباشرة أو يتم تعيينه من السلطة المركزية. ويتأتى هذا الوضع من تداخل التنظيمين اللامركزي واللامحوري خاصة فيما يتعلق بالوالي الذي يكتسي صبغة مزدوجة بوصفه رئيس جماعة محلية وممثل السلطة المركزية بالجهة.وتستوجب الديمقراطية المحلية إنتخاب الهياكل المذكورة من طرف متساكني الجهة. وهو ما إتجهت إليه النيّة في المشروع الأول لدستور الجمهورية الأولى حيث نصّ الفصل 106 منه على إنشاء جماعات محلية ممثَّلة من هياكل منتخبة، لكن لم يتمّ الأخذ بهذا التوجّه في إطار تركيز السّلطات في الإدارة المركزيّة وتخويل هذه الأخيرة التدخّل في الشّأن المحلي من خلال تعيين الهيئة التنفيذية للجماعات المحلية. ويتمثل هذا التدخّل في تعيين رئيس بلدية تونس بأمر من رئيس الجمهوريّة[7] خلافا لبقيّة البلديات التي يقع فيها إنتخاب رئيس البلديّة من بين أعضاء المجلس البلدي[8]. وقد تمّ تكريس النموذج التمثيلي بموجب الفصل 133 من الدّستور الذي نصّ على أنّه: "تدير الجماعات المحليّة مجالس منتخبة" … "إنتخابا عاما، حراّ، مباشرا، سريّا، نزيها، وشفّافا".ويتمّ انتخابأعضاء المجالس البلدية والجهوية بطريقة مباشرة من قبل المواطنين في حين يُنتخب أعضاء مجالس الأقاليم من طرف أعضاء البلديات والجهات. وتطرح الأقاليم كتنظيمات لامركزيّة تساؤلات عدة من حيث مدى تطابق التقسيم الإداري المرتقب مع التقسيم الترابي الموجود سابقا وكيفيّة تنظيمها وماهيّة علاقتها بالسّلطة المركزية وبقية الجماعات المحلية:هل أنّ دورها سيكون توفيقيّا ووسيطا بين المستويين الوطني والمحلي؟ وأخيراً، هل أنّ إحداث هذه الهياكل ضرورة للديمقراطية المحلية ودعامة لها أم بالعكس من ذلك، ستعمّق الوصاية على الجماعات المحلية المعهودة بإخضاعها لإشراف مزدوج من هذه الأقاليم ومن الإدارة المركزيّة في آن واحد؟ تبدو هذه التساؤلات وغيرها في محلّها وضروريّة في إطار البحث عن تجاوز النقائص التي عرّفها التنظيم الإداري في تونس، وفي ملاءمة التنظيم الإداري مع أحكام الدّستور التي تجعل من الشعب صاحب السلطة، والتي تفترض أن تنبع سلطة القرار من القاعدة لا من القمّة. 

وتجدر الإشارة إلى أنّ تشريك المواطنين في إنتخاب هياكل الجماعة المحلية التي يتواجدون على ترابها يُعدّ آليّة ناجعة لتكريس الحكم المحلي ويساعد في تسيير شؤون الجهة نظرا لوجود الروابط الشخصيّة والتقارب بين الناخبين والمترشحين. ولا يتعارض هذا الحكم المحلي مع وحدة الدّولة التي يتمّ التحجّج بها لهيمنة السلطة المركزيّة على الجماعات المحليّة. فلا شيء يمنع في الواقع من التأسيس القانوني لتنظيم لامركزي في إطار وحدة الدّولة من خلال ضبط التوجهات العامّة على المستوى الوطني وتكليف الجماعات المحلية بالتصرّف في الشأن المحلي حسب خصوصيّات كلّ جهة مع الأخذ بعين الإعتبار الجانب المالي في المسألة حتى لا يكون الحكم المحلي أعرج وبحاجة للسّند الوطني الذي سيُؤثّر ولا شكّ في إستقلاليّة إتخاذ القرارات من طرف هياكل الجماعة المحليّة.   

التأسيس للديمقراطية التشاركية
يرمي الدّستور إلى تعديل موازين القوى داخل الدّولة بين المستويين المحلي والوطني من خلال مراجعة العلاقة بين الهياكل المركزيّة ونظيرتها اللامركزيّة. وقد صنّف الفصل 134 من الدّستور صلاحيات الجماعات المحليّة ضمن ثلاث فئات: "صلاحيّات ذاتيّة وصلاحيّات مشتركة مع السلطة المركزيّة وصلاحيّات منقولة منها"، على أن "تُوزّع الصلاحيّات المشتركة والصلاحيّات المنقولة إستنادا إلى مبدأ التفريع". وقد أعطى هذا الفصل للجماعات المحليّة ذاتيّة في نطاق الصلاحيات وكيفيّة ممارستها سواء بالإعتراف لها بكتلة من الصلاحيات التي تمنح لها مبدئيّا وهي الصلاحيات الذاتيّة، والتي تتدعّم بما أسماه الفصل المذكور "الصلاحيات المنقولة إستنادا إلى مبدأ التّفريع" والتي تكون في الأصل من إختصاص السلطة المركزيّة. لكن هذه الأخيرة تنقلها للجماعات المحليّة في إطار اللاّمحوريّة بمقتضى تفويض بحيث تصبح من قبيل الصلاحيات المحليّة الأساسية. 
 
وبالإضافة لهذا الإختصاصات، تمّ التّنصيص على أنّ رئيس الجماعة المحلية يتمتّع بسلطة ترتيبيّة في إطار مهام الضّبط الإداري الموكولة له بالنصّ القانوني وذلك بالتوازي مع السلطة الترتيبية التي يتمتع بها رئيس الجمهورية على المستوى الوطني. وتبرز أهمية هذه السلطة الترتيبيّة من خلال تعميمها وإحاطة العموم علما بها من خلال نشرها في جريدة رسميّة للجماعات المحليّة، ممّا يُعزّز الحكم المحلّي ويدعم صلاحيات الجماعات المحلية لحسن القيان بالشأن المحلي لتكون أهلا لثقة الناخبين  ولتكريس إستقلاليّتها تجاه الدّولة[9]. وتجدر الإشارة إلى أنّ القيام بنشر المعطيات المحلية من شأنه إحاطة الأشخاص علما بالشأن المحلي ومستجدّاته بما يسمح برقابة المسؤولين. وهو الأمر الذي يتماشى مع التوجّه العام الوطني حول تعميم المعلومات بإصدار نصوص تُخوّل للعامّة النفاذ إلى المعلومة، أبرزها المرسوم عدد 41 لسنة 2011 المُؤرّخ في 26 ماي 2011 المتعلّق بالنفاذ إلى الوثائق الإدارية للهياكل العمومية، تكريسا للشفافيّة. وهو ما يتماشى الآن مع أحكام الدّستور حيث ضمن الفصل 32 منه "الحقّ في الإعلام والحق في النفاذ إلى المعلومة".
 
وقد عملت عديد الإدارات وطنيّا ومحلّيا على تطبيق مُقتضيات المرسوم عدد 41 لسنة 2011. فعلى سبيل المثال تمّ صلب بلديّة تونس إحداث "خليّة النّفاذ إلى الوثائق الإداريّة" بموجب المنشور عدد 25 المُؤرّخ في 5 ماي 2012 والتي تمّ تكليفها بضبط قائمة في الخدمات التي تُسديها مصالح البلديّة والوثائق الضروريّة للحصول عليها وجرد المطبوعات المرتبطة بالخدمات التي تسديها الإدارة البلديّة للعموم ووضع أدلّة الإجراءات المستعملة لإسداء الخدمات، بالإضافة لتمكين الأشخاص الطبيعييّن والمعنوييّن من إمكانيّة التقدّم بمطلب للنفاذ إلى وثيقة إداريّة أو مطلب تظلّم. ولا شكّ في أنّ من شأن تعميم هذا التنظيم أن يُؤسّس لعلاقة بين الإدارة المحليّة ومنظوريها تقوم على الشفافيّة في المعاملات وعلى الرّقابة والمحاسبة، وبذلك ينتقل المواطن من طرف مُتقبِّل إلى طرف فاعل وذات دور إيجابي من خلال وسائل عدّة، منها المبادرة الشعبية والإستفتاء والإستشارة وغيرها[10].

ونظرا لأهمية المقاربة التشاركيّة، فقد تمّ إعطاؤها قيمة دستوريّة بأنّ نصّ الفصل 139 على أنّ الجماعات المحلية "تعتمد (..) آليّات الديمقراطية التشاركيّة، ومبادئ الحوكمة المفتوحة لضمان إسهام أوسع للمواطنين والمجتمع المدني في إعداد برامج التنمية والتهيئة الترابيّة ومتابعة تنفيذها طبقا لما يضبطه القانون". لذا وجب إيجاد آليّات تتماشى وجوهر هذه الديمقراطية المحلية سواء على المستوى الوظيفي أو الهيكلي.

مبدأ حرية تحديد موضوع الديمقراطية المحلية
لا يمكن الحديث عن ديمقراطيّة محليّة في غياب حرية التصرّف والتسيير للشّؤون المحلية من طرف الجماعات المحلية. لذا يبدو التنصيص على إختصاص هذه الهياكل في التصرّف في الشأن المحليّ صلب الدّستور من الشّروط الأساسيّة للحكم المحليّ مع تكريس تنظيم هذا التصرّف ومقوّماته الماديّة والبشريّة في النّصوص القانونيّة حتّى تتوفّر الضمانات المبدئيّة للجماعات المحليّة تجاه السّلطة المركزيّة في إطار تقسيم عمودي للإختصاصات بين المُستويين الوطني والمحلّي تحسّبا للتداخل أو التنازع بين إختصاص ومجال تدخّل كلا منها. وقد كلّف الدستور القضاء الإداري بالبت "..في جميع النزاعات المتعلّقة بتنازع الإختصاص التي تنشأ بين الجماعات المحليّة، وبين السلطة المركزيّة والجماعات المحليّة".
 
وجوب مراجعة المرفق العمومي المحلي
يُمكن القول أنّ التّفاوت، بل وحتى الحيف، بين الجهات على الصّعيد التنموي يعكس ولا شكّ عدم نجاعة السياسة التنمويّة التي كانت مُتّبعة من حيث إختلاف الرّؤى بين الوطني والمحلي فيما يتعلّق بالأهداف والوسائل. فما دام "أهل مكّة أدرى بشِعابها"، أفليْس من الأجدى أن نعْهد لهم بتسيير شؤونهم بصورة أصليّة وحصريّة؟ فرغم أنّ الفصل 132 من الدّستور قد متّع الجماعات المحلية بالشخصيّة القانونيّة وبالإستقلال الإداري والمالي ل"تدير المصالح المحلية وفقا لمبدأ التدبير الحرّ"، فإنّه يبدو من الضروري تحديد مفهوم المصالح المحلية بصفة أصليّة إعتمادا على النطاق الترابي أو الوظيفي اللاّمركزي، أو بصورة سلبيّة (par élimination) بتمييزها عن المصالح الوطنيّة. 
 
وتطرح مسألة إعادة توزيع الإختصاصات بين الجماعات المحلية والإدارة المركزيّة في إطار مُراجعة مفهوم التنظيم اللاّمركزي في حدّ ذاته والذي يفترض في جوهره تمكين أيّ تنظيم داخل الدّولة من سلطة إتّخاذ القرار وفضّ مشاكلها بنفسها[11]. ومن المُفترض أن تتضمّن النّصوص الإختصاصات المشتركة بين الولايات والتي كانت في ما سبق موضوع تفويض من الوزراء إلى الوُلاة[12] بالإضافة إلى تحديد الموادّ التي هي من إختصاص البلديّات، ومجالات تدخّل الأقاليم. ومن الضروري في هذا الصّدد توضيح العلاقة بين مختلف هذه التنظيمات فيما بينها من جهة وعلاقتها بالسلطة المركزيّة من جهة أخرى حتى يتسنّى لكلّ منها ممارسة مهامّها بإستقلاليّة حتى في ظلّ التعاون الذي قد ينشأ بين البعض منها في مجالات معيّنة[13]. ولا تنفي الإستقلاليّة وجود رقابة من الإدارة المركزيّة على الجماعات المحليّة لا تصل على حدّ فرض سلطة رئاسيّة بما فيها من إمكانيّة الحلول محلها أو حلّ المجالس الجهويّة والبلديّة، لأنّ في ذلك إنتهاك للمشروعيّة المتأتّية من إنتخاب متساكني الجهة لهذه المجالس. ويمكن تسليط الرقابة على الأعمال الإداريّة للجماعة المحليّة أمام القضاء الإداري على أساس خرق الشرعيّة، وأمام الدّوائر الجهويّة لدائرة المحاسبات فيما يتعلّق بالتصرّف المالي، دون أن نُغفل الإمكانية التي تُخوّل للجماعات المحلية للطعن أمام القضاء الإداري في القرارات الصادرة عن السّلط الأعلى منها على أساس عدم الشرعيّة المبنيّة على الحالات الأربعة التي نصّ عليها قانون المحكمة الإداريّة[14].  

ولا يُمكن في مُطلق الأحوال التغاضي عن بعض الإختصاصات التي تبقى حكرا على الدّولة كالسّلطة التشريعيّة والمجالات التي تتوزّع على مُختلف الجماعات المحلية كالملك العمومي ودفاتر الحالة المدنيّة، والتي تستوجب تحويلات ماليّة لميزانيّة الجماعات المحلية من ميزانيّة الدّولة[15].

وتجدر الإشارة إلى وجود نوع من التّضارب الظاهر (paradoxe) فيما يتعلّق بالمرفق العام الذي يتوجّه للعالمية والشموليّة (service public universel)من جهة، والرّجوع للتّخصيص والذاتيّة والمحليّة من جهة أخرى. وهذا الأمر يجعل تحديد مفهوم المرفق العام المحلي وبالتالي المصالح المحلية مسألة غير سهلة. ولنا أن نُذكّر في هذا الخصوص بمسألة التنمية الجهويّة والمحليّة المستديمة التي تمّ حذفها وهو تراجع مقارنة بمشروع المسودة الأولى للدّستور حيث كان من الممكن توسيع الحكم المحلي وإغتنام فرصة صياغة دستور الجمهوريّة الثانية لإعطاء مفهوم شامل للتنمية المحلية .

ضمانات حرية تصرّف الجماعات المحليّة
ينبني الحكم المحلي على عناصر بشريّة وماليّة تضمن إستقلاليّة القرار وترتقي بتصريف الشأن المحلي إلى مستوى الديمقراطيّة المحليّة.
ففيما يتعلّق بالإمكانيّات الماليّة للجماعة المحليّة فهي تتنزّل ضمن السياسة الماليّة العامّة للدّولة[16]. فبعد تحديد التمشّي الجبائي الوطني[17]، يُفتح المجال للجماعات المحلية لإعداد ميزانياتها حسب النموذج المُعدّ في الغرض[18]. وقد قسّم الفصل 135 من الدّستور موارد الجماعات المحلية ضمن فئتين: "موارد ذاتيّة وموارد محالة إليها من السلطة المركزيّة"، على أن "تكون هذه الموارد ملائمة للصلاحيّات المسندة إليها قانونا" وأن يترافق "كلّ إحداث لصلاحيّات أو نقل لها من السلطة المركزيّة إلى الجماعات المحليّة"، .. "بما يناسبه من موارد".  

 وتجدر الإشارة إلى أنّه تمّ ترْك الحرية للجماعات المحلية في إستخلاص عائداتها من الموارد الطبيعيّة التابعة لها أو تحصيل الأتاوات من الرّخص التي تسندها والتي غالبا ما يتمّ ضبط مقدارها بحيّز مالي على أن تقوم الجماعة المحليّة بتحديد المعاليم كما تراها. وهذا من شأنه ايجاد تفاوت بين موارد ميزانيّات الجماعات المحلية والذي سينعكس حتما على نفقاتها وحجم ونوعيّة الخدمات والمرافق التي تسديها للمتساكنين. ويستتبع ذلك من جهة مساس بمبدأ المساواة بين المواطنين في الحقوق والذي له قيمة دستوريّة، ومن جهة أخرى تجزئة المرافق العامّة حسب القدرة المادية للجماعة المحلية[19]. وستفضي التنمية الجهويّة من هذا المنظورلإختلال التوازن داخل المجتمع وايجاد نوع من الطبقيّة مع التحركات الدّيمغرافية التي قد تتولّد عن ذلك في محاولة من الأشخاص (طبيعيين كانوا أم معنويين) للبحث عن محيط عيش أفضل.  

أمّا فيما يخصّ العنصر البشري، فإنّ الإطار الوظيفي لأعوان الجماعات المحلية قد تطوّر مع إحداث شعبة صلب المدرسة الوطنية للإدارة في إطار المرحلة العليا تُعنى بتكوين إطارات سامية في الإدارات الجهوية والمحلية والمصالح الخارجيّة ممّا يُزوّدهم بالكفاءة اللاّزمة في تسيير الشأن المحلّي.

ينبني نجاح الجماعات المحلية في الإضطلاع بمهام الحكم المحلي على مُعطيات عديدة إتّضحت أهمّيتها بعد الثورة مع النيابات الخصوصيّة التي تمّ تكليفها بالتصرّف في الشأن المحلي إثر حلّ الهياكل السّابقة. لكن صورة ودور الجماعات المحليّة إتّسمت ببعض الضبابيّة فرضتها الطبيعة الإنتقاليّة للمرحلة في إنتظار أن يُحدّد القانون نظامها الذي سيُميّز الجمهوريّة الثّانية عن الأولى من حيث تمرير الدّيمقراطيّة من عليائها إلى القاعدة الشعبيّة ويُدعّم الديمقراطيّة المحليّة خاصّةبإيجاد إطار رقابي فعليّ يهمّ الأشخاص والهياكل على حدّ سواء. فالرقابة هي أحد أوجه المقاربة التشاركيّة في تسيير الشأن المحلي سواء كانت تتمّ بصفة مسبقة أو موازية أو لاحقة. فكلّ مرحلة من التصرّف المحلي تستوجب التقييم والمراجعة لتحقيق الأهداف التي سطّرها منظورو الجماعة المحلية والتي من أجلها قاموا بإنتخاب ممثليهم.

وقد كرّس الدّستور في فصله 138 الرقابة اللاحقة بما يعطي إستقلالية للجماعات المحلية في إتخاذ القرار ويُسهّل عملها. فلا يتوقف نفاذ القرارات المنبثقة عن مداولات الهياكل المنتخبة على مصادقة  السّلطة المركزيّة، وذلك خلافا لرقابة الإشراف التّي كرّسها الإطار القانوني السّابق للجماعات المحليّة[20].

أمّا على المستوى المالي، فتخضع الهياكل المحلية لأحكام مجلة المحاسبة العموميّة فيما يتعلق بالرقابة المسبقة من المحاسبين العموميين على الآمر بالصّرف وكذلك الرقابة اللاّحقة التي تمارسها دائرة المحاسبات[21].  

مرّ الحكم المحلي من نسبيّة الإستقلال في ظل الجمهوريّة الأولى إلى حوكمة محليّة مبنيّة على لامركزيّة ترابيّة ومرفقيّة في الآن ذاته. لكن التطبيق والتكريس الفعلي للمبادى العامّة والتوجهات التي رسمها الدّستور تبقى فاعليّتها رهينة المنظومة القانونية التي سيتم بناؤها لاحقا ومنوطة بالإرادة السياسيّة والوعي الشعبي بضرورة تكريس ديمقراطيّة محليّة تستجيب لمشاغل الناخبين.

مساعد تعليم عالي
 



[1] ر.ر.ج.ت عدد 26 في 8 أفريل 2011,ص472
[2] ر.ر.ج.ت عدد 27 في 19 أفريل 2011,ص496
[3] ر.ر.ج.ت عدد 20 في 25 مارس 2011,ص472
[4]« la démocratie qualifiée par le niveau de l’organisation administrative auquel elle s’exerce » ;Marcou(G) : « la démocratie locale en France :aspects juridiques »,in O.C :la démocratie locale. représentation ,participation et espace public. P.U.F 1999,p21.
[5]« le poids du présent c’est le caractère fictif de l’autonomie locale »; Jenayah (R) : « heurs et malheurs de l’autonomie locale en Tunisie » ;à paraitre in mélanges Joel Molinier, Montchrestien p340 et s.
[6]« Démocratie locale et transition politique en Tunisie » ; Jenayah (R), revue « droit et politique » ; faculté dedroit et dessciences politiques de Sousse, 2012, P403.
[7] ينصّ الفصل 56 من القانون الأساسي للبلديّات (منقّح بالقانون عدد 57 لسنة 2008 المُؤرّخ في 4 أوت 2008) ،على أنّ "..رئيس بلديّة تونس يُعيّن بأمر من بين أعضاء المجلس البلدي".
[8] الفصل 56 من القانون الأساسي للبلديّات.
[9] لا يمكن الحديث عن الإستقلاليّة  المطلقة في هذا الصّدد لأنّ مبدأ وحدة الدّولة يُحافظ على الإرتباط بين المستويين المركزي واللاّمركزي وذلك على خلاف الدّولة الفيدراليّة التي تتمتع فيها الهياكل المحلية بإستقلالية أكبر خاصّة على المستوى التشريعي.
[10] أنظر منشور عدد 31 صادر عن رئيس الحكومة بتاريخ 30 أكتوبر 2014 حول اعتماد مسار تشاركي في إعداد النصوص القانونيّة.   
[11]Article 4 de « la charte européenne de l’autonomie locale » du 15 octobre 1985, conseil de l’Europe n°22.
[12] يراجع المنشور عدد 23 الصادر عن رئيس الحكومة بتاريخ 19 سبتمبر 2014 حول صلاحيات الوالي.
[13] كان هذا الوضع قائما في القانون الأساسي للبلديّات في الفصول 134 و135 و136 و137 التي كانت تُكوّن الباب الخامس من هذا القانون بعنوان "التعاون بين البلديّات"،حيث أجازت الفصول المذكورة التعاون بين الجماعات المحليةبمقتضى إتفاقيّات أو وكالة أو بإحداث شركات تجاريّة.
[14] تتمثل في خرق قاعدة قانونية أو قواعد الإختصاص أو الإنحراف بالسلطة أو بالإجراءات وخرق قاعدة شكليّة جوهريّة .
[15] تتنزّل هذه التحويلات ضمن الجزء الخامس لموارد العنوان الثاني بعنوان "الموارد المُتأتّية من الإعتمادات المُحالة" ، كما نصّ عليه الفصل 8 من القانون عدد 35 لسنة 1975 المُؤرّخ في 14 ماي 1975 المتعلّق بالقانون الأساسي لميزانيّة الجماعات المحليّة ،كما تمّ تنقيحه وإتمامه بالنصوص اللاّحقة وخاصّة القانون الأساسي عدد 65 لسنة 2007 المؤرّخ في 18 ديسمبر 2007.
[16]Ayadi (H) : « droit fiscal. impôt sur le revenu » ;C.E.R.A, Tunis 1996,p50.
[17] وهذا إحتراما لوحدة الدّولة وعملا بأحكام مخطّطات التنمية.
[18] تمّ تقسيمها إلى ثلاثة نماذج وفق قرار وزير الداخليّة والتنمية المحلية ووزير الماليّة المؤرّخ في 31مارس 2008 المتعلّق بضبط صيغة وتبويب ميزانيّات الجماعات المحليّة.
[19]Gintrand (E) : « services publics locaux » ; juris-classeur administratif, volume1, fascicule 126, p6.
[20] الفصل25 منالقانون الأساسي عدد33 المؤرّخ في 14 ماي 1975 المتعلق بالبلديات.
[21] تغيّر إسم دائرة المحاسبات إلى محكمة المحاسبات حيث نصّ الفصل  117 من الدّستور على أنّ القضاء المالي يتكوّن "..من محكمة المحاسبات بمختلف هيئاتها.تختصّ محكمة المحاسبات بمراقبة حسن التصرّف في المال العام، وفقا لمبادئ الشرعيّة والنّجاعة والشفافيّة، وتقضي في حسابات المحاسبين العموميين، وتقيّم طرق التصرّف وتزجر الأخطاء المتعلّقة به، وتساعد السلطة التشريعيّة والسّلطة التنفيذيّة

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، تونس



لتعليقاتكم


طورت بواسطة Curly Brackets

اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية