كيف تكتمل الثورة الدستورية في مجال القضاء الإداري؟


2015-04-10    |   

كيف تكتمل الثورة الدستورية في مجال القضاء الإداري؟

تضمّن الدستور التونسي الجديد نصّا ذا أبعاد ثورية في مجال القضاء الإداري. وهذا ما نقرؤه في الفصل 116 الذي نص على أن القضاء الإداري يتكون: “من محكمة إدارية عليا، ومحاكم إدارية استئنافية، ومحاكم إدارية ابتدائية”. كما نص الفصل نفسه على أن القضاء الإداري يختص بالنظر في تجاوز الإدارة سلطتها، وفي النزاعات الإدارية، ويمارس وظيفة استشاريةطبق القانون.ويتمثل الطابع الثوري لهذا النص، رغم اقتضابه، في إعادة بناء هيكلية المحكمة الإدارية على نحو يسمح بإخراجها من جمودها وتأكيد ثنائية النظام القضائي. وبناءً على هذا النص، يشكل وضع قانون ناظم لهذا القضاء أحد أهم استحقاقات الدستور. فما هي الإشكاليات والمواضيع التي يطلب من القانون الموعود التصدي لها التزاماً بالنص الدستوري؟ هذا ما أحببنا مناقشته في هذه المقالة في موازاة الورش القانونية المفتوحة في هذا المجال.

إعادة بناء هيكلة المحكمة الإدارية
حدّد القانون الخاص بالمحكمة الإدارية (1972) “مقر المحكمة  الإدارية تونس العاصمة” (الفصل 1)، فيما يكون للسلطة التنفيذية “إحداث دوائر ابتدائية بالجهات متفرعة عن المحكمة الإدارية”  تختص فقط “في القضايا المرفوعة ضد السلط الإدارية الجهوية والمحلية والمؤسسات العمومية الكائن مقرها الأصلي بالنطاق الترابي للدائرة” (الفصل 15). ويستفاد من ذلك أن الثنائية القضائية التي تفصل القضاء الإداري عن القضاء العدلي  انتهت الى حصر جسد القضاء الإداري في محكمة مركزية في تونس العاصمة. وفيما القانون تطرق لإمكانية افتتاح فروع جهوية للمحكمة الإدارية، فإن ذلك لم يتحقق أبداً.

وقد أدى الاكتفاء بمحكمة إدارية مركزية ذات عدد محدود من القضاة والدوائر القضائية الى سلبيات عدة، أبرزها تحميل المتقاضي مشقة التنقل للعاصمة تونس لمتابعة دعواه، وإطالة أمد نشر القضايا والذي تجاوز في معدله العامّ ثلاث سنوات بالنسبة للدرجة الابتدائية وقارب هذه المدة بالنسبة للطورين التعقيبي والاستئنافي.

وقد تجاوز الدستور التصوّر المبسّط للقضاء الإداري والذي يعتبر أن القضاء الإداري قضاء الإدارة وأن مقر الإدارة في العاصمة، ليفرض صلب نصه على المشرع والسلطة السياسية وضع ما يلزم من تشريعات لتطوير هيكلية القضاء الإداري في اتجاه يكرّس “حق الجهات في التقاضي الإداري”. ومن الطبيعي أن يتطلب ذلك  اعتمادات بشرية ومادية لبناء منظومة قضاء إداري متطورة تضاهي القضاء العدلي في امتداده الجغرافي وتخصصه الترابي. وتؤدي دسترة “هيكلية المحكمة الإدارية” الى تحوّل هامّ في قواعد اختصاص قضاء الإدارة،  وخصوصاً لجهة تجاوز فكرة ربط الاختصاص الترابي بالدولة المركزية في اتجاه اعتبار قواعد اختصاص تعتدّ بالمعاملة الإدارية في تحديد هذا الاختصاص.

ومن المُرتقب أن يطرح تحديد هذا الاختصاص إشكاليّات جديّة عند صياغة مشروع القانون. فما هي المعايير التي يتوجب أخذها بعين الاعتبار في هذا المجال؟ هل يحدّد مرجع النظر الترابي في العقود الإدارية بالاعتماد على مكان تنفيذ العقد أم على أي اعتبار آخر؟ وإذا كان تنفيذ العقد يتم في أكثر من دائرة، فما هو المعيار الحاسم للاختصاص؟ فهل يؤخذ بعين الاعتبار في هذه الحالة مكان توقيع العقد من قبل الجهة الإدارية؟ وهل يمنح الطرفان إمكانية الاتفاق صلب العقد على تعيين محكمة ابتدائية إدارية أخرى ما لم يكن ذلك متعارضاً مع مقتضيات المصلحة العامة وذلك تكريساً لمبدأ الحرية التعاقدية؟

ومن جهة أخرى، أي معايير لتحديد الاختصاص الترابي بالنسبة الى نزاعات المسؤولية الإداريّة؟ هل يكون اختصاص المحاكم الإدارية الابتدائية محدداً في تلك الدعاوى بمقر السلطة الإدارية المعنية بالطلب بالنسبة للمسؤولية الناجمة عن الأعمال الإدارية غير الشرعية وبمكان النشاط أو الأشغال أو المنشآت العمومية مصدر المضرّة؟ ثم، ماذا بشأن النزاعات الشغلية الإدارية؟ ألا يفترض في هذه الحالة اعتماد مقر عمل المدعي وذلك لطبيعة هذه النزاعات المعاشية وحماية لحق التقاضي أم يعطى المدعي خيارات عدة في هذا المجال؟

وختاماً في هذا الصدد، من شأن تطوّر هيكلة المحكمة الإدارية أن يغيّر جغرافياً الخريطة القضائية جذريّا. ويستدْعي تنزيل هذا التغيير الثّوري تشريعياً وفعلياً دراسة معمقة تضمن حسن إدارة الموارد العامة في تحقيق ذلك. ويبدو الدستور التونسي في هذا الإطار طلائعياً، إذ إنه ربط تطوير هيكلة القضاء الإداري بتطوير جذري لاختصاص القضاء الإداري بعدما وضع بأن القضاء الإداري يختص “بالنظر في تجاوز الإدارة سلطتها، وفي النزاعات الإدارية”. ويبدو القول بانعقاد اختصاص القضاء الإداري بكل نزاعات الإدارة في دولة تعتمد نظام الثنائية القضائية من باب لزوم ما لا يلزم، إلا أن النظر في حقيقة توزيع الاختصاص بين القضاء العدلي والقضاء الإداري يبين أهمية هذا النص الدستوري.

نحو إنهاء تشتيت النزاعات الإدارية
اعتمدت السلطة التشريعية والسياسية في تونس مركزية القضاء الإداري وبطء فصله في المنازعات كسبب لتقسيم المنازعات الإدارية بين القضاء الإداري والقضاء العدلي. وأدى هذا التوجه لتداخل في الاختصاص يصعب تبريره. ففي حالات، يسند المشرع للقضاء العدلي المنازعة في طورها الابتدائي ليسحبها منه في الطور الاستئنافي والتعقيبي، كما هي حال منازعات التسجيل بالقوائم الانتخابية. وفي منازعات إدارية أخرى، يخص القضاء العدلي بالمنازعات في الطورين الابتدائي والاستئنافي ليُترك قضاء التعقيب للمحكمة الإدارية كما هي الحال في نزاعات الضمان الاجتماعي والنزاعات الجبائية. كما أنه في حالات أخرى، تم سحب النزاع الإداري بالكامل من القضاء الإداري لفائدة القضاء العدلي كما كان الأمر في دعاوى التعويض عن الانتزاع للمصلحة العامة. وقد أدى تنازع الصلاحيات هذا الى تشتيت النزاعات الإدارية وتشعّب قواعد اختصاصها، وبكلام آخر الى فوضى “قضائية” تعدّت التنازع على الاختصاص لتصل الى تضارب فقه القضاءين بذات النزاعات.

ومن هذه الزاوية، يعبّر النصّ الدستوريّ عن إرادة حازمة في إنهاء الفوضى التشريعية في هذا المجال. ويرتقب تالياً أن يحصر القانون الواجب وضعه جملة النزاعات الإدارية بالقضاء الإداري. وقد يكون من المتعين في إطار حسن إدارة مرفق القضاء التوجه نحو التوسع في مفهوم النزاع الإداري لضمان الاستفادة من تطور نظام القضاء الإداري هيكلياً في اتجاه توزيع جديد للمنازعات بين القضاء الإداري والقضاء العدلي تخفف ضغط القضايا عن القضاء العدلي وتضمن للمحاكم الإدارية الجديدة مجال اختصاص يمكنها من إنتاج العدالة.

أعاد الدستور الاعتبار لمبدأ الثنائيّة القضائيّة الذي تبنّته تونس في دستور غرّة جوان 1959. ويتعيّن على السّلطات العامّة المسارعة في تنزيل الأحكام الدستوريّة المتعلّقة بالقضاء الإداريّ تشريعيّا وترجمتها إلى قوانين تتعلّق بإعادة تنظيم القضاء الإداري وإحداث محاكم إدارية ابتدائية واستئنافية ومحكمة إدارية عليا وإعادة الاختصاصات الإدارية السليبة إلى قاضيها الطبيعي. فمع انقضاء المرحلة الانتقالية التي نص عليها الدستور، تصبح كل التشريعات التي تسند اختصاصات إدارية للمحاكم العدلية غير دستورية، الأمر الذي يهدّد حجيّة كل الأحكام الصادرة على أساس هذه التشريعات.

كما يتوجّب على المشرّع سنّ مجلّة للإجراءات الإدارية تحدّد بوضوح مرجع النظر الحكمي والإداري للمحاكم الإدارية، فضلاً عن إعادة الاعتبار للقضاء الإداري بأن تسخّر لفائدته المقارّ والوسائل المادية والبشرية اللازمة لحسن سيره بعدما عانى طويلاً من التهميش وتضييق الاختصاص. فالقضاء الإداري هو مرآة عدل الدولة مع مواطنيها وضمانة الشرعية وحامي الحريات وصمام الأمان لعدم الانتكاس في ما كرّسه الدستور من حقوق وحريات.

٭قاض لدى المحكمة الإدارية

نشر في العدد واحد من مجلة المفكرة القانونية في تونس

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، تونس ، مجلة تونس



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني