خطوات تونس لتطبيق دستورها الجديد


2015-04-08    |   

خطوات تونس لتطبيق دستورها الجديد

تمثّل المصادقة على الدستور التونسي في 26 جانفي 2014 حدثا مفصليّا، إذ إنه في الوقت الذي وضع فيه نقطة النهاية لحكم وقتي هشّ ومتقلّب، مثّل نقطة بداية لورشة تشريعية ضخمة بقدر ما هي دقيقة بسبب علاقتها الوطيدة بنجاح المشروع الديموقراطي المعلن عنه أو إخفاقه. وبالفعل، أولى آليات إنفاذ الدستور هي الآلة التشريعية، إذ هي التي ستنظّم ممارسة الحقوق والحريات التي ضمنها، وهي التي ستحدث المؤسسات الجديدة وستضبط طرق وإجراءات سيرها.

لكن العمل على هذه الورشة التشريعية يتطلّب تحديد الأولويات التي سيقع على أساسها ضبط روزنامة، لأن مثل هذا العمل سيستغرق وقتاً طويلاً. فإرساء إصلاحات تشريعية وفق المعايير الدستورية الجديدة يتطلّب الوقت الكافي للتفكير والمداولة بشأنها، ليس فقط من قبل أهل الاختصاص، لكن كذلك من قبل القوى الاجتماعية، وذلك بناءً على ما ورد في توطئة الدستور لجهة وجوب إرساء ديموقراطية تشاركية. وهذا أمر محمود ومنشود رغم دقة الوضع ووجود أوضاع تتطلب العجلة في بعض القطاعات.

على أن هذه السلطة التأسيسية اتخذت عند وضعها الدستور، وبالتحديد في أحكامه الانتقالية، بعض القرارات بشأن هذه الأولويات والروزنامة التي تترتّب عليها، إذ إنها حدّدت الآجال القصوى لإرساء بعض المؤسسات، وتبعاً لذلك لوضع القوانين ذات الصلة. وعليه، أصبحت القوانين المتعلّقة بهذه المؤسسات استعجالية لأن عدم الإسراع بسنّها سيترتّب عليه خرق للدستور.

ولأن الأمر حُسم تقريباً بالنسبة لهذه المسائل، فسنبدأ باستعراضها قبل الخوض في النصوص الأخرى الضرورية لإنزال الدستور حيّز التطبيق مع إبداء بعض الملاحظات بخصوص الممكنات والضرورات، سواء تعلّق الأمر بجدولتها أو بمنهجية إعدادها.

القوانين التي وضع الدستور مهلة لإصدارها

–         القانون الأساسي للانتخابات والاستفتاء
وقد تمّت المصادقة على هذا القانون في 1-5-2014، وهو مشروع سعت قوى اجتماعية بجدّية إلى الإسهام في إعداده.
وبالفعل، تقدّم عدد من الجمعيات المختصّة في ملاحظة الانتخابات بمشاريع قوانين انتخابية، وهي جمعية “شاهد”[1] و”جمعية شباب بلا حدود”[2] وجمعية “عتيد”[3]. وفي 15 فيفري، تبنّى خمسة عشر نائباً مشروع جمعية “شباب بلا حدود”. وانطلاقاً من 23 فيفري، شرعت لجنة التشريع العام في دراسة مشروعي “عتيد” و”شباب بلا حدود”، وقد امتدّ النقاش حولهما طوال خمس وأربعين جلسة.

كما بادرت ثماني جمعيات[4] بتقديم وثيقة للمجلس الوطني التأسيسي فيها 75 توصية بخصوص القانون الانتخابي. وقد تمّ ضبط هذه التوصيات انطلاقاً من تقييم هذه الجمعيات لعملية انتخاب المجلس الوطني التأسيسي في 2011، خاصة على مستوى تسجيل الناخبين ومراقبة الحملة الانتخابية ومصادر تمويلها والسلطة المخوّلة للهيئة العليا المستقلة للانتخابات.

وأثار هذا المشروع خلافات احتدّت أحياناً، سواء داخل المجلس التأسيسي أو خارجه، رغم أن المجلس قرّر عدم الانطلاق من ورقة بيضاء لتصميمه، بل استأنس بمشاريع نابعة من هذه المنظمات المدنية.

وبعد نقاشات امتدّت حوالي الشهرين والنصف، تمّت المصادقة على مشروع القانون الانتخابي.
وسبب اقتصار هذا القانون على الانتخابات التشريعية والرئاسة والاستفتاء يعود الى أن مجلس نواب الشعب يرغب بسنّ قانون للانتخابات البلدية والجهوية. فالدستور كرّس تصوّراً للحكم المحلّي يختلف جذرياً عمّا كان عليه في ظلّ دستور 1959، علماً أن البلديات تسيّر حالياً بنيابات خصوصية معينة بصفة وقتية مجردة من أي مشروعية انتخابية.

القانون المتعلّق بالسلطة القضائية وبالمجلس الأعلى للقضاء
تشكّل السلطة القضائية وفق الفصلين 49 و102 من الدستور سلطة مستقلة ضامنة لعلوية الدستور وسيادة القانون وحماية الحقوق والحريات. لذا كان من الضروري إرساء أهمّ آلية لضمان استقلالية هذه السلطة، وهي المجلس الأعلى للقضاء الذي يتولى ضبط المسار الوظيفي للقضاة من تكوين وانتداب وترقية ونقل وتأديب. وقد وضع الدستور أجلاً لإرساء هذا المجلس هو ستة أشهر من تاريخ الانتخابات التشريعية حداً أقصى.
ويُعتبر إرساء المجلس الأعلى للقضاء في الآجال المقرّرة بالدستور ضرورياً ليس فقط من باب الالتزام بما ورد في الدستور[5] بل كذلك بسبب الدور الموكل اليه في تعيين ثلث أعضاء المحكمة الدستورية الواجب حصوله ضمن مهلة سنة من تاريخ الانتخابات التشريعية.
وقد أعدّت وزارة العدل صيغة أولى لمشروع القانون القاضي بإرساء هذا المجلس. ثم عادت الحكومة وأقرت مشروع قانون انطلاقا من الصيغة الثانية التي أعدتها وزارة العدل على ضوء الملاحظات والانتقادات التي وجهت للصيغة الأولى. وفي آخر الأمر، أحالت الحكومة في 12 مارس 2015 الى مجلس نواب الشعب مشروع قانون حول المجلس الأعلى للقضاء، وهو الآن بصدد المناقشة صلب لجنة التشريع العام[6].

القانون المتعلّق بإنشاء المحكمة الدستورية
تعدّ المحكمة الدستورية أهمّ المؤسسات التي جاء بها دستور 2014، لأنها ستضمن احترام الدستور من قبل السلطة التشريعية، بما يتطلب مطابقة القوانين للدستور، وكذلك أحياناً من قبل السلطة التنفيذية. فيمكنها التدخّل للتثبّت من ضرورة تمديد رئيس الجمهورية في حالة الاستثناء المنصوص عليها بالفصل 80 كما أنها تتدخّل لمحاكمته في صورة توجيه تهمة له بخرق فادح للدستور من قبل مجلس نواب الشعب.
لذا، وجب الشروع في الاهتمام بالقانون المتعلّق بهذه الهيئة القضائية المتميّزة، خاصة أنها ستثير عديد الإشكالات بسبب غياب وضوح الأحكام الدستورية في عديد المسائل التي تهمّ تنظيمها، كالصفات الواجب توفرها في أعضائها من غير المختصين في القانون أو إجراءات عملها على غرار الدفع بعدم الدستورية أمام المحاكم العدلية أو الآثار المترتبة على قرارتها.
ورغم إقرار الدستور أجلاً لبعثها وهو سنة على أقصى تقدير من تاريخ الانتخابات التشريعية، فإننا لا نجد إلى حدّ الآن حديثاً لدى السلط القائمة أو مجلس نواب الشعب بهذا الشأن. لكن يسجل قيام الجمعية التونسية للقانون الدستوري بتنظيم ورشات عمل مع خبراء أجانب في المسألة، تم الخروج إثرها بجملة من التوصيات ستُقدّم لمجلس نواب الشعب.

القوانين الضرورية لإنفاذ الدستور والتي يرجع لمجلس نواب الشعب جدولة وضعها
يمكن تصنيف هذه النصوص ضمن مجموعتين. فمنها ما يخصّ تنظيم السلط ومنها ما يهمّ ضمان الحقوق والحريات. لكن هذا التصنيف لا يعني أن الأمر يتعلّق بنصوص مشتتة لوجود ترابط وثيق في ما بينها. ويلحظ بداية أن للمجلس نظرة للأولويات التشريعية لا تتطابق بالضرورة مع ضرورات تنفيذ الدستور. فأولويات المجلس ترتبط عموماً بأولويات الحكومة، وهي ذات طابع اقتصادي قبل أن تكون ذات طابع مؤسساتي أو حتى حقوقي. لذا، فمن المرجح أن تكون الحزمة الأولى للقوانين التي سينظر فيها المجلس هي الحزمة المتعلقة بالقروض والاتفاقيات التجارية وذات الطابع الاقتصادي. وفي موازاة ذلك، تتولى لجنة فنية تابعة لوزارة العدل العمل على مشروع تنقيح لمجلة الإجراءات الجزائية. كما تجدر الإشارة الى مشروع قانون مكافحة الإرهاب الذي يعتبر من بين الأولويات المتأكّدة. وقد اختارت الحكومة الجديدة أن ترسل مشروع قانون جديد حول مكافحة الارهاب الى مجلس نواب الشعب بتاريخ 25-03-2015، أي بعد أسبوع من هجوم باردو الارهابي. ومن يمعن في هذا القانون، سرعان ما يتبين مخاطر فوبيا الارهاب. فعدا عن طول فترة احتفاظ أعوان الضابطة العدلية بالمشتبه بهم بالاهاب (قد تصل الى 15 يوما)، ينص مشروع القانون على تجريد القاضي من سلطته بتخفيض عقوبة الاعدام اذا كان المحكوم عليه بالارهاب راشدا، في حالات كثيرة[7].

النصوص المتعلقة بتنظيم السلط

–         القانون الأساسي للانتخابات البلدية والجهوية وهو بصدد الإعداد
لقد فتح دستور 2014 آمالاً جديدة حول اللامركزية، وبالتحديد حول الحياة البلدية، خاصة أمام إخفاق المشروع اللامركزي الذي كرّسته دولة الاستقلال نصّا وممارسة وعلى ضوء الأوضاع التي خلّفها تسيير الشؤون المحلية في السنوات الثلاث المنقضية بنيابات خصوصية فاقدة للاستقرار وللإمكانيات المادية، وخاصة للمشروعية الانتخابية الضرورية لتحقيق مشاريع التنمية والتهيئة وغيرها.

وبسبب إدراك كل الأحزاب السياسية لأهمية السلطة المحلية، وتبعاً للرهانات التي تمثلها الانتخابات المحلية، فإنها عادت لتهتمّ بالمسألة مباشرة بعد الإعلان عن نتائج الانتخابات التشريعية. فالأحزاب التي فازت بنصيب من المقاعد في مجلس نواب الشعب بدأت بالتفكير في دعم تموقعها على المستوى المحلّي، أما تلك التي لم تفز أو تحصّلت فقط على عدد محدود من المقاعد فهي بدأت ترى في الانتخابات المحلية فرصة تدارك لها عليها أن تستثمرها.

ومهما يكن من أمر، فإن الحكومة، وبالتحديد مصالح وزارة الداخلية والجماعات المحلية، شرعت منذ حكم الترويكا )أي في ظل الحكومة التي ترأستها حركة النهضة) في إعداد مشروع قانون للانتخابات البلدية. وقد قامت لهذا الغرض بمشاورات مع المنظمات المدنية بدعم من وكالة التعاون الدولي للجمعية الهولندية للجماعات المحلية VNG cilgوالتي هي بصدد العمل على هذا المشروع من خلال لقاءات مع عدد من الجمعيات بالعاصمة وبالجهات لمحاولة الوصول معهم إلى مجموعة من المقترحات بشأن هذا القانون بناءً على تصوّراتهم وانتظاراتهم.
وتنبني هذه التصورات والانتظارات على ما نستشفّه من نية في التحوّل بتصوّر اللامركزية في تونس، وذلك من خلال بعض العبارات الواردة في الدستور والتي لم نعهدها من قبل. ومن الأمثلة على ذلك، عنوان الباب المخصّص للامركزية وهو «السلطة المحلية» (عوضاً عن “مصالح محلية” كما كان الأمر بمقتضى دستور 1959)، وأيضاً الحديث عن التدبير الحرّ (في الفصل 132) وكذلك الحديث عن الديموقراطية التشاركية والحوكمة المفتوحة (في الفصل 139).

كما تنبني هذه التصورات والانتظارات على ما أفرزته الحياة السياسية في السنوات الأربع المنقضية، وخاصة الانتخابات التي تمّت خلالها من شعور بالخذلان لدى بعض الشرائح الاجتماعية، خاصة منها الشباب والنساء لاعتبارهم أنه لم يقع تمثيلهم ولا تشريكهم في المرحلة الانتقالية بالقدر الذي يستحقّونه.

ومن هنا جاءت مطالب المنظمات المدنية والتي تمّت ملاقاتها بوجوب دعم الفئات الهشة. وتجدر الإشارة الى أن المنظمات عرفت الفئات الهشة، ليس بمعناها التقليدي أي فقط من زاوية العوز الاقتصادي، بل على نحو يشمل مجمل الفئات التي ليست لها الحظوظ نفسها في الفوز وغيرها من الفاعلين أو الناشطين في الحقل السياسي. ومن بين أسباب هشاشة أوضاعها، التقسيم التقليدي للأدوار داخل المجتمع كما هي حال النساء، أو أيضاً عدم ثقة القوى السياسية بقدراتهم وخبراتهم وهذا حال الشباب.

لذا جاء التأكيد من طرف الجمعيات المشاركة على ضرورة اعتماد قانون انتخابي يتلاءم مع ما ورد في الفصلين 46 و133 من الدستور، والذي يخص أولهما التمثيل المتناصف بين الجنسين في كل الهيئات المنتخبة، وثانيهما ضرورة ضمان تمثيلية الشباب في المجالس المحلية. وقد تمّ التأكيد على أن الحياة العامة في الفضاء المحلّي هي أفضل فرصة للتمرّس على المسؤوليات السياسية واكتساب الخبرة فيها.
ولئن اتجهت أنظار المجتمع المدني إلى القانون الانتخابي للبلديات، إلا أنه ينبغي الوعي بأن هذه الانتخابات لا يمكن أن تتمّ قبل إعادة النظر في قانون البلديات ذاته.

–         القانون الأساسي للبلديات
وبالفعل، وبحكم التصوّر المجدّد للامركزية المشار اليه أعلاه، وبحكم ما جاء به الفصل 14 من الدستور الذي أقرّ بضرورة اعتماد اللامركزية بكامل تراب الجمهورية، فإن كلّ هذا يقتضي إعداد وإصدار قانون جديد للبلديات يأخذ بعين الاعتبار هذه المعطيات إلى جانب ضرورة الاستئناس بالتجارب المقارنة على غرار فرنسا مثلاً. فإرساء الحكم المحلّي على كامل تراب الجمهورية، بمعنى تحويله بأكمله إلى مناطق بلدية، أمر لا يمكن إنجازه في سنة أو سنتين، بل إنه مشروع يمكن أن يأخذ 5 سنوات على أقلّ تقدير لما يتطلّبه من دراسات اقتصادية واجتماعية وبشرية ضرورية للتقسيم الترابي الجديد حتى تكون البلديات المنبثقة عنه مجدية وقادرة على تحمّل مسؤولية الحكم المحلّي.

وفي هذا المجال أيضاً، علمنا أن مصالح وزارة الداخلية والجماعات المحلية شرعت في إعداد مشروع في هذا المجال بمنأى عن المنظمات المدنية، ولم يتسرب حتى الآن أيّ معطيات بهذا الشأن.

حزمة القوانين المتعلّقة بالهيئات الدستورية المستقلة
خصّت الهيئات الدستورية المستقلة في الدستور بباب كامل وهو الباب السادس. وتمثّل هذه الهيئات نوعاً جديداً من السلطة المضادّة التي يمكن أن تحدّ من نفوذ السلطة السياسية (الحكومة والبرلمان) بأشكال عدّة بحسب المجال الذي تتدخّل فيه. ومن هذه الهيئات، الهيئة الخاصة بالانتخابات التي تؤمّن العمليات الانتخابية، وهيئة الإعلام السمعي البصري المكلفة بالسهر على ضمان تعدّد الآراء وتنوّعها، لكن كذلك نزاهة ومهنية هذا القطاع في حدود ما تقتضيه حرية التعبير والنشر والإعلام المضمونة في الدستور، فضلاً عن هيئات ذات طابع استقصائي وبحثي كما هو الشأن بالنسبة لهيئة حقوق الإنسان وهيئة الحوكمة الرّشيدة ومكافحة الفساد. ويضاف اليها هيئة ذات وظيفة استشارية كهيئة التنمية المستدامة وحقوق الأجيال القادمة.

ولعلّ هذا التنوّع في مستويات تدخّل هذه الهيئات هو الذي يفسّر إقرار الدستور بأنها تعمل على دعم الديموقراطية. وإذ أقرّ الدستور أنه يتمّ انتخاب أعضاء هذه الهيئات بأغلبية معزّزة من قبل مجلس نواب الشعب، إلا أنه أحال للقانون بيان تركيبتها والتمثيل فيها وطرق انتخابها (الفصل 125 من الدستور). وفي هذا المجال ينبغي الاتعاظ بما حدث عند إصدار القانون القاضي بإحداث هيئة الانتخابات، وخاصة الجدل الذي أثاره والذي أدّى إلى حدّ الطعن في تركيبتها أمام المحكمة الإدارية. فآليات الانتخاب التي كرّسها هذا القانون فتحت المجال أمام المحاصصة الحزبية، في حين أنه يفترض في هذه الهيئات استقلاليتها حتى تتمكّن من الانتصاب كرقيب على الفاعلين السياسيين.

وقد تمّ إلى حدّ الآن إعداد مشروع قانون بالنسبة لهيئة حقوق الإنسان عُرض على المجلس الوزاري في 19 نوفمبر 2014 احتوى على 45 فصلاً حدّد بالتفصيل اختصاصات الهيئة وتركيبتها التي تقوم على مكتب ومجلس استشاري ولجان قارة متخصّصة وهيكل تنفيذي.

كما أُعدّ مشروع قانون لهيئة التنمية المستدامة وحقوق الأجيال القادمة، وذلك بإشراف أستاذين جامعيين بمشاركة منظمات مدنية وبالتحديد الرابطة التونسية للبيئة والتنمية. وقد أُعدّ هذا المشروع إثر استشارتين جمعتا مسؤولين عن المؤسسات العمومية المتدخلة في مجال البيئة والتنمية والجمعيات ذات النظر، تمّت الأولى في 24-12-2014 والثانية في 21-2-2015.

وبقيت هيئة تعديل الإعلام السمعي البصري، وهي هيئة بالغة الأهمية في فترة يشهد فيها القطاع مظاهر انفلات متعددة، بحاجة إلى تعديل وإلى وضع ضوابط تمنع عودة الرقابة والتوظيف السياسي. كما بقيت هيئة الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد التي يمثّل إرساؤها إحدى الآليات الضرورية لإصلاح المنظومة الاقتصادية وانتعاش هذا القطاع.

القوانين المتعلقة بحقوق الإنسان

القانون المنقّح لمجلة الإجراءات الجزائية
أقرّ الدستور جملة من المبادئ أبرزها ما ورد في الفصل 23 وتوابعه. ومن أهم هذه المبادئ ضمان الكرامة البشرية والحرمة الجسدية ومنع التعذيب الذي أصبح جريمة لا تسقط بالتقادم، إضافة إلى قرينة البراءة (الفصل 27) ومنع الإيقاف والسجن التعسّفيين (الفصل 29) وحق السجين في معاملة إنسانية (الفصل 30) وحق التقاضي وحقوق الدفاع (الفصل 108).

لكن التزامات الدولة التونسية لا تنتج فقط من أحكام الدستور بل من المعاهدات الدولية التي صادقت عليها والتي يعدّها الدستور أعلى قيمة من القوانين. وقد صادقت تونس على أهم المعاهدات والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان، بما يوجب اليوم إعادة النظر الجذرية في مجلة الإجراءات الجزائية حتى تصبح مطابقة لهذه الضمانات الدستورية.

وأكثر تفصيلاً، ينبغي أن تراجع هذه الإجراءات في ما يخصّ مدّة الاحتفاظ والإيقاف التحفظي. كما ينبغي أن تراجع الأحكام المتعلّقة بالحق في محام في كلّ أطوار البحث والتتبع والمحاكمة، وخاصة في مرحلة الاحتفاظ لدى الضابطة العدلية وذلك ضمانا لحقوق الدفاع التي تمثّل إحدى الرّكائز الأساسية للمحاكمة العادلة. وما عدا ذلك، من الضروري إقرار ضمانات بشأن حق كل محتفظ به أو موقوف في فحص طبّي بطلب منه أو من أحد أفراد عائلته لمكافحة ظاهرة التعذيب.

وقد ورد على المجلس الوطني التأسيسي في 6 فيفري 2013 مشروع قانون في هذا الشأن. لم ينظر فيه المجلس لانكبابه آنذاك على مشروع الدستور، فبقي عالقا هنالك. وما أن تولّى مجلس نواب الشعب السلطة التشريعية حتى شرعت كلا من لجنة التشريع العام ولجنة الحقوق والحريات في النظر فيه. فضلا عن ذلك، ثمة لجنة ضمن وزارة العدل تعمل حاليا على إعداد مشروع تعديل جوهري لكلّ من مجلة الإجراءات الجزائية والمجلة الجزائية بمساهمة مجموعة من الخبراء (أساتذة جامعيين ومحامين).

ومن المؤكّد أن النظر في مثل هذا المشروع وطرحه على النقاش العام سيكون له وقع كبير وسيثير عديد النقاشات في فترة تشهد فيها الدولة والمجتمع توغّلا للإرهاب. وعلى هذا الأساس وجب العمل على إيجاد المعادلة الصعبة عند مراجعة هذا القانون بين ضمان الحقوق والحريات الأساسية من جهة ومواجهة الإرهاب من جهة أخرى وجعل هذه الأخيرة أداة لحماية الأولى لا لضربها.

–         القانون الشامل حول مكافحة العنف ضدّ المرأة
يفرض هذا القانون نفسه بناءً على ما جاء في الفصل 46 من الدستور حول اتخاذ الدولة التدابير الكفيلة بالقضاء على العنف ضدّ المرأة، وبناءً على ما في مثل هذا العنف من تجسيد للتمييز ضدّ المرأة (يكفل الفصل 21 من الدستور المساواة بين المواطنين والمواطنات في الحقوق والواجبات من دون تمييز) ومن وقوف أمام تكافؤ الفرص بينها وبين الرّجل في تحمّل المسؤوليات (التكافؤ المكفول في الفصل 46 من الدستور) ومن مساس بالكرامة البشرية ومن اعتداء على الحرمة الجسدية (الفصل 23 من الدستور).

لكن خاصة يفرض هذا القانون نفسه بسبب تفشي ظاهرة العنف ضدّ النساء والفتيات وما يخلّفه كل يوم من أضرار جسدية ونفسية وصحية واجتماعية.

وفي هذا الإطار، اعتزمت كتابة الدولة للمرأة والأسرة إعداد مشروع قانون شامل متعلّق بالقضاء على كل أشكال العنف ضدّ المرأة والفتيات. وتمّ ذلك بدعم من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي PNUD  وبمشاركة خبراء متنوعي الاختصاصات وبالتحديد في مجال القانون وعلم الاجتماع. وتمّ بالفعل إعداد المشروع الذي اهتمّ بتعريف العنف ضدّ المرأة تعريفاً واسعاً شمل ليس فقط العنف الجسدي بل كذلك العنف النفسي والرّمزي والاقتصادي بما هو كل فعل مبني على عصبية الجنس ويترتّب عنه أذى أو معاناة نفسية أو جسدية أو اقتصادية، ويعدّ عنفاً التهديد بمثل هذه الأفعال.

وبحكم شمولية هذا القانون أي طموحه إلى مكافحة كلّ أشكال العنف مهما كان الفضاء الذي يمارس فيه، فإنه قضى بتنقيحات عدّة، منها ما يشمل المجلة الجزائية ومجلة الإجراءات الجزائية، ومنها ما يشمل مجلة الشغل، ومنها ما يشمل مجلة الأحوال الشخصية.
إلا أنه بعد تقديمه إلى كتابة الدولة لشؤون المرأة والطفولة والأسرة وقع تجميده، وأعربت الوزارة على عدم نيتها عرضه على مجلس الوزراء للمداولة.

وعلى ضوء ما تقدّم، يمكن أن نلاحظ أن مهمة مجلس نواب الشعب صعبة لأنها تتطلّب وضع أولويات بما يتطلّب القيام بخيارات ينبغي أن تكون مدروسة وليست اعتباطية أو مبنية على حسابات سياسية ضيقة أو ظرفية، خيارات ينبغي أن تتمّ بسرعة دون تسرّع.

كما على المجلس أن يدرك أن الديموقراطية التشاركية المنصوص عليها بتوطئة الدستور ليست شعاراً ولا وشاحاً ننمّق به نص الدستور بل هي ممارسة ومسار ينبغي أن يقبل بها. فكلّما اتبعت استشارات وطنية، وكلّما تمّت استشارة أهل الخبرة في إعداد مشاريع القوانين، كلّما زادت حظوظ تبنّيها بل استبطانها من قبل المجتمع وبالتالي احترامها والدفاع عنها.

*كلية العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية بتونس

نشر في العدد واحد من مجلة المفكرة القانونية في تونس


نشر هذا المقال في العدد | 26 |آذار /مارس/  2015 ، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:

تونس و مصر: نموذجين مختلفان لتطبيق الدساتير بعد 2011

 


[1]تقدّمت جمعية شاهد بمشروع قانونها الانتخابي للمجلس الوطني التأسيسي في 18 فيفري 2014
[2]تقدّمت جمعية شباب بلا حدود بمشروع قانونها الانتخابي في 14 فيفري 2014
[3]تقدّمت جمعية عتيد بمشروع قانونها حول تسجيل الناخبين في 10 أكتوبر 2013
[4]تضمّنت هذه المجموعة الجمعية التونسية للقانون الدستوري، أنا يقظ، مراقبون، عتيد، شباب بلا حدود، رابطة الناخبات التونسيات، مرصد شاهد، شبكة أوفياء.
[5]أكّد وزير العدل الجديد السيّد محمّد الصالح بن عيسى في أول لقاء له بممثلين عن جمعية ونقابة القضاة بتاريخ 12 فيفري 2015 تمسّك وزارة العدل بالالتزام بالآجال المقرّرة في الدستور لإرساء المجلس الأعلى للقضاء.
[6] عن هذا القانون، يراجع ملاحظات المفكرة القانونية حول مشروع قانون المجلس الأعلى للقضاء، منشور في هذا العدد.
[7]“فوبيا الارهاب تفتح الباب للثأر بواسطة القضاء”، منشور في هذا العدد.
انشر المقال

متوفر من خلال:

تشريعات وقوانين ، مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات ، تونس



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني