“المرأة” ومبدأ المساواة في قانون العقوبات؟


2015-03-27    |   

“المرأة” ومبدأ المساواة في قانون العقوبات؟

شهد قانون العقوبات في السنوات الأخيرة تعديلات هامة في قضايا المرأة مع صدور قانون تجريم الإتجار بالبشر (2011) وقانون إلغاء الأسباب التبريرية والتخفيفية لما اصطُلح على تسميته جريمة الشرف (2011) وقانون حماية المرأة وسائر أفراد الأسرة إزاء العنف الأسري (2014). وفي السنوات السابقة لهذه التعديلات، كانت اللجنة البرلمانية لتحديث القوانين قد وضعت مشروع تعديل شاملاً لقانون العقوبات في 2002[1] و2009. وما نريده هنا هو تقييم هذه الخطوات سعياً لاستكشاف مقاربة المشرع للمرأة في أوضاع ثلاثة: المرأة في الحيز الخاص والمرأة في الحياة الاقتصادية والمرأة كسلعة. فكيف تعامل أو يتعامل المشرّع مع الأحكام المؤثرة في أوضاع المرأة؟ وهل هو يعتمد نظرة أكثر قبولاً لحرية المرأة،وبالنتيجة للمساواة بين الجنسين، سواء في الإطار الزوجي أو بشكل أعم في مجال الحياة الخاصة؟ وهل هو يحمي المرأة في مواجهة عنف التقاليد على اختلاف أشكاله وفي مواجهة الاستغلال؟ وبشكل أعم، هل تتخذ التعديلات المعتمدة أو المقترحة طابعاً تغييرياً حقيقياً أم أنها تبقى شكلية مجردة عن أي تأثر واقعي؟

المرأة في الحيز الخاص

في هذا المجال، ثمة ترابط بين قانون العقوبات وقوانين الأحوال الشخصية التي تتولى تنظيم العائلة والعلاقة بين أعضائها. وهذا ما يتجلى في عدد من أحكامه: فمن جهة أولى، تؤول بعض مواد قانون العقوبات الى معاقبة الأفعال المخالفة لأحكام الأحوال الشخصية التي تخضع لها المرأة كما هي حال معاقبة زواجها مجدداً قبل انقضاء فترة العدة (مادة 484). ومن جهة ثانية، تراعى قوانين الأحوال الشخصية عند تقويم خطورة أي فعل، وتالياً في ما إذا كان فعلاً معاقباً عليه أم لا. وهذا ما نقرؤه بصراحة كلية في المادة 483 المتصلة بالزواج المبكر، حيث يكون عقد زواج مبكر فعلاً جرمياً فقط إذا حصل خلافاً لما تجيزه قوانين الأحوال الشخصية. وهذا الأمر يؤشر الى أن الخطورة التي يهدف قانون العقوبات الى ردعها تتمثل في انتهاك قوانين الأحوال الشخصية أكثر مما تتمثل في انتهاك حقوق الطفل[2]. الأمر نفسه نسجله على صعيد عقد زواج ثان والذي يُعاقب عليه فقط إذا كان باطلاً أي إذا كان مخالفاً لقوانين الأحوال الشخصية[3].

وبشكل أعم، وأبعد من هذه الإشارات الصريحة لقوانين الأحوال الشخصية، فإن قانون العقوبات مبني عموماً على اعتبارات تقليدية أو قيمية للعائلة تنسجم في أكثر من مجال، أقله في مبدئها، مع الاعتبارات الموجهة لقوانين الأحوال الشخصية، ولا سيما في مجال تعريف مفهومي الشرف والزواج.
فالزواج هو الزواج السلطوي الذي يتولى فيه الرجل – رب العائلة – سيادتها. والشرف هو أيضاً الشرف السلطوي الذي يتولى فيه الرجل سلطة فرض الحشمة على المرأة المرتبطة به (العرض)، ولو بالقوة، صوناً للشرف العائلي، فيما يتعين عليها، هي، إثبات التزامها بهذه الحشمة كلما دعت الحاجة الى ذلك. وهكذا، نلحظ أن قانون العقوبات يتدخل في مجالات عدة، بطريقة أو بأخرى، إما بهدف معاقبة أي فعل يتعارض مع هذه الاعتبارات أو يمس بها، وإما بهدف إعفاء أي فعل يهدف الى صونها – ولو كان بطبيعته جرمياً – من المعاقبة، أو على الأقل تفهمه.

وفي هذا الإطار، نسجل المواد 487 الى 489 التي تعاقب الزنى أي العلاقات الجنسية التي يقيمها أي شخص مرتبط بزواج خارج الرابط الزوجي. وكانت هذه المواد تعاقب أي علاقة جنسية تقيمها المرأة المتزوجة، فيما يعاقب الرجل المتزوج فقط إذا زنى مع امرأة اتخذها جهاراً أو في منزله الزوجي. وقد اختلفت المواقف النسوية إزاء هذه المادة: ففيما طالب البعض بإلغائها تماماً، طالب البعض الآخر بتعديلها في اتجاه تكريس المساواة بين الجنسين، سواء من حيث العناصر المكونة للجرم أو من حيث العقوبة. وبالطبع، الموقف الثاني يغلّب الاعتبارات الشكلية في مقاربة وضع المرأة، فيكتفي بتحقيق المساواة الشكلية من دون النظر الى الواقعين الاجتماعي (تبعية المرأة للرجل اقتصادياً) والقانوني (إمكانية تعدد الزوجات، والطلاق الأحادي وانحياز قوانين الأحوال الشخصية للرجل في قضايا الحضانة) السائدين واللذين يؤديان الى تطبيق هذه المادة عموماً على النساء. وقد تبنت لجنة تحديث القوانين في 2009 مطلب المساواة الشكلية، وهذا أيضاً ما اعتمده قانون حماية المرأة من العنف الأسري، والذي انتهى ليس فقط الى تكريس المساواة في التجريم وفي المعاقبة، إنما أيضاً الى اعتبار ارتكاب الزنى إحدى حالات العنف الزوجي والتي يشملها القانون. والواقع أن هذا التعديل مخادع: فمعاقبة الزنى جزائياً إنما يعكس بالدرجة الأولى مسؤولية المحافظة على الحشمة التي هي العامل الرئيسي في تبرير التمييز ضد المرأة؛ وإن أي تكريس لها هو إضعاف للمرأة. وتالياً، فإن هذا التعديل عمد عملياً الى تسخير مبدأ المساواة لتبرير استمرار العمل بنظام الحشمة الذي هو أصلاً الانتهاك الأكبر للمساواة. وما يعزز هذا القول هو أن إمكانية لجوء المرأة الى ملاحقة زوجها الزاني تبقى نظرية، أقله بالنسبة الى عدد من الطوائف، في ظل الواقع الاجتماعي والقانوني المشار إليه أعلاه. فماذا يعني الزنى لرجل يستفيد في نظام أحواله الشخصية أو في النظام الذي قد يختاره من خلال تغيير دينه من مبدأ تعدد الزوجات أو من حق التطليق بالإرادة المنفردة؟ وأخطر ما في هذا التعديل المخادع هو عدّ الزنى سبباً لاتخاذ تدابير حماية ضد الزوج الزاني أو المرأة الزانية، الأمر الذي يخشى معه تحويل قانون الحماية من العنف الأسري الى قانون لفرض الحشمة.

ومن المواد الأخرى ذات الدلالة، المادة 503 التي تخرج الاغتصاب الزوجي من إطار المعاقبة صوناً لمفهوم الزواج السلطوي. وقد جاء قانون حماية المرأة من العنف الأسري ليؤكد “حق الزوج في الجماع” بما يكرّس مفهوم الزواج السلطوي، وذلك في إطار استبعاد معاقبة الاغتصاب الزوجي.
ونذكر في هذا السياق أيضاً المادة 522 التي توقف الملاحقة ضد الشخص المتهم باغتصاب امرأة، أو بخطفها.. أو حضها على ارتكاب الفحشاء أو إغوائها وفض بكارتها أو لمسها أو مداعبتها بصورة منافية للحياء في حال عقد زواج صحيح بين مرتكب الجريمة والمعتدى عليها. وهذه المادة ذات دلالة كبرى: فهي تظهر جليّاً مكانة حرية المرأة بالتحكّم بجسدها بالنسبة الى “الشرف العائلي”. فالمجتمع على أتم الاستعداد للتخلي عن معاقبة اغتصاب امرأة، وكأن فعل الاغتصاب ليس خطراً، إذا أدى ذلك الى غسل “الشرف العائلي” وترميمه. وهذه المادة تظهر في الوقت نفسه حجم المسؤولية الملقاة على عاتق المرأة التي توضع أمام الخيار الآتي: إما أن تتمسك بمعاقبة الاعتداء على سيادتها وجسدها فترفض الزواج من الفاعل (المغتصب) فيُعاقب؛ وإما أن تغلّب غسل الشرف العائلي على أي اعتبار آخر، فتتخلى ليس فقط عن معاقبة الاعتداء على سيادتها وجسدها (أو سيادة جسدها)، بل تضع نفسها بتصرف المغتصب الذي له في ما بعد أن يضاجعها شرعاً، وإذا عصته، أن يغتصبها من دون تبعات قانونية ما دام القانون لا يعاقب الاغتصاب الزوجي. وهذا الخيار القانوني يصبح بالواقع خياراً ظاهرياً محضاً في بعض الحالات حيث تغلب مفاهيم ترميم الشرف المعتدى عليه على أي أمر آخر. وفي هذا المجال، وتبعاً لتكاثر المطالبات الرافضة لزواج المغتصب في أكثر من بلد عربي، تضمنت مقترحات 2009 إلغاء المادة 522 المشار اليها أعلاه، وهو أمر لم يُقرّ بعد. وفي حال إقرار هذا التعديل، يصبح التعدي على المرأة من قبل شخص غير زوجها أمراً ذا تبعات خطيرة لا تقبل التسوية، ما يحرر المرأة من عبء التضحية بحريتها وبحقها ترميماً للشرف العائلي. وتبعاً لذلك، جاز التساؤل عن معاني هذا المقترح: فهل هو حقاً يعبّر عن إرادة إصلاحية في اتجاه تعزيز مكانة حرية المرأة بالنسبة الى مكانة الشرف العائلي، بحيث تصبح التضحية بهذه الحرية بدواعي الحفاظ على هذا الشرف غير ممكنة؟ أم أنه يكرّس واقعاً اجتماعياً بات يستحيل معه تسوية الاغتصاب بزواج لاحق تماماً كما بات يصعب لأسباب عدة تسوية القتل بدفع دية، لأسباب قد تكون مرتبطة بالعلاقة بين مختلف القوى الاجتماعية (علاقة العائلات في ما بينها وعلاقتها بالدولة) بقدر ما هي مرتبطة بحقوق المرأة ومفاهيم الشرف؟

أياً تكن الإجابة، فمن المؤكد أن المشروع التعديلي سعى الى إظهار انفتاح واضعيه على مطالب الحركة النسائية في مجال الحيز الخاص، وأن هذا الانفتاح انحصر في المجالات التي لا يعتريها أي تصادم أو رفض ذي شأن، ولا سيما إزاء السلطات الطائفية، في ما يشبه التسوية بين اعتبارات الحداثة واعتبارات المحافظة على القيم التقليدية أو الدينية. وهكذا، فلا بأس من إعلان المساواة الشكلية في قضايا الزنى، ولكن لا مجال بالمقابل لأي مناقشة في إلغاء تجريمه بحد ذاته بل حتى في تخفيض العقوبة المترتبة عليه. كل ذلك من دون أن يترافق التعديل مع أي إصلاح من شأنه أن يؤشر الى إعلان حرية المرأة أو سيادتها على جسدها. بل على العكس، يبدو من شروط التسويات المشار اليها أعلاه التأكيد الدائم على موجب الحشمة وخاص في إطار العلاقات الزوجية.

ويتعزز ذلك بالنظر الى الفئة الثانية من المواد المميزة ضد المرأة وهي المواد التي تكرّس أو تتفهم الشرف السلطوي. وإذ تدخل المشرّع لإلغاء الأحكام المتصلة بالحالات التي تكون فيها المرأة هي الضحية (المادة 562 التي كانت تمنح أسباباً مخففة لجرائم الشرف المرتكبة ضد المرأة صوناً للشرف)، فإنه أبقى على الحالات التي تكون فيها المرأة هي المرتكبة (أي حين تقتل وليدها أو رضيعها – في حال السفاح – اتقاءً للعار)، التزاماً منها بالشرف. والواقع أن هذه المواد (551) تضع الأم أمام خيار أصعب وأفظع من خيار المادة 522 بحيث يكون عليها ليس الاختيار بين اتقاء العار وسيادتها على جسدها، بل بين مسؤوليتها في المحافظة على الشرف العائلي وأمومتها.

كما نشير في الإطار نفسه الى المادة 518 من قانون العقوبات التي تعاقب فض البكارة إذا حصل تبعاً لوعد خطي بالزواج وتم النكث به. وهذا ما فتح الباب أمام لجوء نساء عديدات الى القضاء بدفع من عوائلهن لإثبات النكث بالوعد، وغالباً ما يترافق ذلك مع فحوص للعذرية تقوم به المرأة (في معظم الحالات الفتاة بمعية أمها) المعنية من تلقاء نفسها إثباتاً لدعواها. وقد أبقى مشروع 2009 هذه المادة قائمة من دون تعديل. وهذا الأمر إنما يؤشّر الى التعامل مع المرأة وكأنها قاصر بحاجة الى الحماية ضد أبناء الحرام الذين يتلاعبون بها بوعود كاذبة للحصول على عذريتها. وهي تالياً ليست قادرة على إدارة عواطفها إدارة مناسبة، ما يوجب حمايتها من نفسها أيضاً؛ ويجعل الاعتراف بسيادتها على جسدها منقوصاً. وهكذا يظهر إبقاء هذه المادة وكأنه مخادع: فتحت غطاء حماية المرأة، يتم عملياً تجريدها من جدارتها بحكم ذاتها.

كما تجدر الإشارة الى أن المشروع التعديلي قد لحظ إعفاء المرأة من العقوبة في حال الإجهاض إذا ثبت أن استمرار حبلها يشكل خطراً على حياتها أو أن الجنين معرّض لمرض خطر غير قابل للشفاء أو أن الحمل ناتج من سفاح أو اغتصاب.

المرأة العاملة

هنا، يطرح السؤال: هل تضمنت النصوص المعتمدة أو المقترحة أي مواد من شأنها ضمان المساواة بين الجنسين في مجال العمل، والحد بأي حال من استغلالها ومن باب أولى لشروط عمل تتنافى مع الكرامة الإنسانية؟

وأول ما نسجله في هذا المضمار هو أن المشروع التعديلي لقانون العقوبات (2009) قد حذف المادة المقترحة في المشروع التعديلي السابق (2002) بتجريم التحرش الجنسي من دون الإعلان عن أي مبرر. وإذ وصف منتدى الكرامة الإنسانية في قانون العقوبات هذا المقترح آنذاك بأنه أحد الإيجابيات النادرة في المشروع التعديلي، تظهر لجنة التحديث من خلال إلغائه، إما أن هذا التعديل كان منذ الأصل مجرد تمويه أو دعوة تخفي وراءها سيئات مشروع 2002، وإما أن إلغاءه يؤشر بوضوح الى تغليب الذكورية ومعها مصالح أصحاب العمل على هواجس المرأة وتخوفاتها.

ولكن أهم من ذلك، هو تجاهل المشروع للمآسي التي يعاني منها عشرات آلاف عاملات المنازل، واللواتي غالباً ما يخضعن لشروط عمل تتنافى مع الكرامة الإنسانية، كأنما هذه المآسي لا تشكل أي خطورة من شأنها تبرير منطق الردع أو العقاب. وهذا ما انتقده انتقاداً واسعاً منتدى الكرامة الإنسانية لقانون العقوبات[4]. وبالطبع، لا يتأتى هذا الصمت عن جهل بحجم المشكلة من قبل الإدارات العامة التي غالباً ما أعلنت أقله مؤخراً عن تصميمها في تحسين الأمور في هذا الشأن[5]، إنما عن خيار واضح مفاده إبقاء هذه الفئة على حالها من الهشاشة. فكأنما حساسية المشترع للأمور، لا تقاس بحجم المأساة أو بمدى بشاعتها على الصعيد القيمي، إنما بالدرجة الأولى بالموقع الاجتماعي للضحية أو للمذنب.

المرأة – السلعة:

وهنا، نتناول كيفية مقاربة المرأة كسلعة، أعني في مجال الدعارة السرية. فكيف قارب المشروع التعديلي هذه المسألة؟ هل أدخل موادّ من شأنها ردع الإتجار بمن يتعاطون الدعارة أو حماية هؤلاء؟ وقبل الإجابة عن هذه الأسئلة، لا بد من إبداء ملاحظات ثلاث:

الأولى، أن مجمل أنواع الدعارة في لبنان باتت سرية منذ زوال تراخيص بيوت البغاء وإحجام الإدارة العامة عن إعطاء تراخيص جديدة منذ انتهاء الحرب،

الثانية، أن قانون العقوبات (المواد 523-530) ساوى الى حد بعيد بين الذي يتعاطى “الدعارة السرية” (سنة حبس حداً أقصى) والذي يستغله، فأخضعه لعقوبة متماثلة أو متقاربة تصل في بعض الحالات الى سنتين كما هي حال الذي استبقى شخصاً رغماً عنه في بيت فجور أو أكرهه على تعاطي الدعارة (525). وتالياً، بدا القانون وكأنه يتجاهل تماماً وضعية الذين يتعاطون الدعارة أو طبيعة العلاقة الهرمية وربما القسرية بينهم وبين الذين يستغلونهم. كما أنه تجاهل الفروقات بين مختلف حالات الاستغلال، وتالياً الخطورة الكبيرة لبعض أشكاله. هذا مع العلم أن الزبون يبقى خارج دائرة المعاقبة.

الثالثة، أن مقاربة الإدارة العامة لهذه المسألة هي باطنية الى أقصى درجة: فبخلاف الخطاب المعلن الآيل الى عد الدعارة جرماً جزائياً، تتخذ بعض الأجهزة الأمنية تدابير إدارية ترمي بوضوح الى تنظيمها وتأطيرها كما هي حال تعامل المديرية العامة للأمن العام مع الفنانات أو المدلكات أو أيضاً حال تعامل قوى الأمن الداخلي مع بنات البارات[6]، كل ذلك وسط صمت مطبق من قبل السلطات العامة، وكأنما الأمر لا يعنيهم[7].
وبمقارنة مشروعي 2002 و2009، يظهر أن هذا الأخير امتاز عن سابقه بإدخال تعديلات هامة في هذا المجال، في اتجاه التشدد إزاء استغلال الدعارة.

وهكذا، وخلافاً لقانون 1943، بات الاستغلال يستوجب عقوبة حبس من سنة الى ثلاث سنوات في حالات عدة (523، 524، 527)، فيما يصبح الجرم جناية يعاقب عليها بالحبس الجنائي المؤقت إذا وقع الجرم على زوج الفاعل أو أحد أصوله أو فروعه الشرعيين أو غير الشرعيين أو المتبنين منه، أو على من يمارس الفاعل عليه سلطة شرعية أو فعلية أو كل من تربطه به علاقة استخدام أو خدمة، أو على مصاب بمرض خطير أو عاهة خطيرة أو مرض نفسي أو عقلي من شأنه الانتقاص من قواه الجسدية أو النفسية أو العقلية، أو إذا تم استغلال شخص بسبب وضعه المادي السيئ أو نتيجة دين متوجب بذمته، أو إذا استبقى الفاعل الشخص موضوع الاستغلال رغماً عنه في مكان معد للدعارة أو لتسهيلها أو إذا استعمل الفاعل وسائل الإكراه أو العنف أو التهديد المادي أو المعنوي أو الخداع (525). كما أن الاقتراح شدد العقوبة الجنائية إذا حصلت بحق قاصر دون الخامسة عشرة من عمره، أو بواسطة جماعة منظمة لهذه الغاية، أو باللجوء الى الأعمال البربرية أو إذا تم الاستغلال بواسطة أو بفعل موظف رسمي مكلف مكافحة الدعارة (526).

وهذا ما تعزز مع صدور قانون تجريم الإتجار بالبشر والذي أدى الى رفع كل استغلال الى مصاف الجناية عند توفر حالى الإتجار بالبشر. ولعل مرد التغير في الموقف هو قيام لبنان بتصديق بروتوكول باليرمو، أي بروتوكول منع وقمع ومعاقبة الإتجار بالأشخاص وخاصة النساء والأطفال (اعتمد سنة 2000 وصدق عليه لبنان في 2482005)، ما رتّب عليه التزامات واضحة في ردع أفعال استغلالية معينة، وخاصة الأفعال التي تقارب الاستعباد.
وإذا كان التشدد إزاء الاستغلال على هذا الوجه إيجابياً، فإن المشروع كما قانون تجريم الإتجار بالبشر استبقيا معاقبة الذين يتعاطون الدعارة، وحتى لو كان قاصراً. وهو بذلك بدا كأنه يمزج مجدداً بين المرتكب والضحية، أو كأنما اعتماد عقوبات رادعة إزاء الذي يستغل الدعارة يهدف الى حماية المجتمع من آفة الدعارة من دون إيلاء الاهتمام الكافي لضحاياه أو لروابط الاستغلال التي تبدو في هذا المجال غير منتجة. ولعل خير دليل على منطلقات المشروع التعديلي (2009)، هو أنه جعل تعاطي الدعارة جناية إذا كان الفاعل على علم بأنه مصاب بمرض معدٍ غير قابل للشفاء.

أيا يكن مضمون النصوص المعتمدة أو المقترحة، فمن البيّن غياب تام لأي إرادة سياسية في تطبيق قانون تجريم الإتجار بالبشر، سواء في حالات العمل القسري أو استغلال دعارة الغير. فبعد سنوات من إقراره، تبقى الملاحقات على أساسه معدودة وهي تنحصر في بعض حالات الآباء والأمهات السوريين الذين ضُبطوا وهم يسهلون تسوّل أبنائهم القصر[8]. من هذه الزاوية، توحي التطبيقات أن القانون الذي وُضع أصلاً لحماية الفئات الأضعف ضد استغلال ضعفها هو في طور التحوّل الى أداة إضافية لقمع هذه الفئات.

نشر في الملحق الخاص بالمرأة – آذار / مارس 2015



[1] وقد نظمت المنتدى مجموعات أربع: حريات خاصة، والتجمع النسائي الديموقراطي اللبناني والجمعية اللبنانية لحقوق الانسان، ومنظمة العفو الدولية (فرع لبنان). وقد نشرت أعمال المنتدى في “الكرامة الانسانية في قانون العقوبات”، صادر للمنشورات الحقوقية، بيروت، 2003.
[2]ما زالت قوانين الأحوال الشخصية لدى بعض الطوائف تجيز زواج القاصرين (9 سنوات للفتيات أو عند بلوغهن)
[3]المادة 485 من قانون العقوبات الحالي.
[4] مرجع مذكور أعلاه في الهامش 1.
[5]تأليف لجنة لمعالجة اليد العاملة الأجنبية في لبنان وذلك نتيجة اجتماع عقده وزير العمل مع عدد من السفراء والقائمين بالأعمال, وكان قد لفت الوزير الى أن الوزارة في صدد إنشاء مكتب لتلقي الشكاوى (جريدة الأخبار 4 شباط 2010)
[6]لجأت مديرية الأمن العام الى وضع لوائح تنظيمية هي بمثابة مذكرات داخلية لتنظيم وضع الفنانات تفصيليا ومن أهم ما ورد: احتجاز “الفنانة” الأجنبية فور وصولها لغاية إخضاعها لمعاينة طبية وانتظار نتائج الفحوصات، إرغامها على توقيع عقد عند وصولها، إلزامها بالإقامة في “الفنادق أو الدور المجازة” فقط كما ويخضع عمل المدلكات الأجنبيات وبنات البارات لقواعد العمل المرعية الإجراء وللمعاينة الطبية كل ستة أشهر(مشروع تخفيف مخاطر التعرض للالتهابات المنقولة جنسياً وفيروس الايدز- توسيع خيارات عاملات الجنس – قراءة قانونية لوضعية عاملات الجنس  إزاء مخاطر انتقال فيروس نقص المناعة –  نزار صاغيّة ونائلة جعجع).
[7]تقرير المقررة الخاصة المعنية بجوانب حقوق الانسان لضحايا الاتجار بالأشخاص، لا سيما النساء والأطفال السيدة سيغما هدى، لجنة حقوق الانسان، الدورة الثانية والستون،تاريخ 20-2-2006،  الفقرتان 44 و45
[8] المفكرة القانونية، العدد 25، كانون الثاني 2015.
انشر المقال

متوفر من خلال:

قضاء ، مساواة ، جندر ، المرصد القضائي ، محاكم جزائية ، تشريعات وقوانين ، مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات ، جندر وحقوق المرأة والحقوق الجنسانية



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني