قراءة في النظام الانتخابي للمجلس الأعلى للقضاء في تونس


2015-02-18    |   

قراءة في النظام الانتخابي للمجلس الأعلى للقضاء في تونس

أعلنت وزارة العدل التونسيّة عن مشروع قانون لتنظيم المجلس الأعلى للقضاء بتاريخ 31 جانفي 2015. وأثار المشروع الأوّلي للقانون نقاشات حول أحكامه رغم اتفاق اغلب المتدخّلين على أهمية فكرة تطوير النص والبناء على ما تضمّنه وذلك عبر نقد أحكامه وتطوير النقاش حولها. وقد يكون النظام الانتخابي للمجلس الأعلى للقضاء من المسائل التي تحتاج تعميق التفكير حولها، إذ يثير النظام الذي أقرّه مشروع القانون المذكور لإنتخاب أعضاء المجلس الأعلى للقضاء ملاحظات عديدة ويحوي تناقضات واضحة.

 ينصّ الفصل 21 من مشروع قانون المجلس الأعلى للقضاء على إحداث لجنة موسّعة تتولّى الإشراف على العمليّة الانتخابية بالنّسبة للأعضاء المنتخبين من القضاة بالنسبة للمجالس القضائيّة الثّلاثة المكونة للمجلس الأعلى للقضاء (وهي تباعا مجلس القضاء العدلي ومجلس القضاء المالي ومجلس القضاء الاداري). والملاحظ أنّ تركيبة هذه اللجنة موسّعة ومتباينة حيث تضمّ 17 عضوا منهم القضاة والإداريّون والجامعيّون.
وقد اقتصر تمثيل القضاة على الوظائف القضائيّة الثلاث الأعلى فحسب أي الرّئيس الأوّل لمحكمة التّعقيب والرّئيس الأوّل لمحكمة المحاسبات و الرئيس الأوّل للمحكمة الإداريّة العليا وهم من أعضاء المجلس الأعلى للقضاء بصفتهم تلك، الأمر الذي يطرح مسألة تضارب المصالح  حيث سيشرف الأعضاء القضاة المذكورون على إنتخابات بقيّة أعضاء مجلس سيكونون هم أنفسهم أعضاء فيه.

كما تضمّ اللجنة المذكورة من بين أعضائها ممثّلين عن السلطة التنفيذيّة برأسيها رئيس الجمهوريّة ورئيس الحكومة وممثّلا عن مجلس نوّاب الشّعب كأعضاء وهو ما يتجافى وروح الدستور والغاية من سنّ قانون المجلس الأعلى للقضاء نفسه والذي يراد منه أن يكرّس القطيعة الهيكليّة مع السلطتين التشريعيّة والتنفيذيّة ويؤسّس لسلطة ثالثة مستقلّة تحجز مكانها إلى جانب السلطتين المذكورين على أساس من النديّة. فلا مجال بذلك أن يشارك ممثلو السلطتين التشريعية والتنفيذيّة في تنظيم إنتخابات السلطة الثالثة وأن تمارس الوصاية عليها منذ مرحلة الولادة بالإنتخاب.
كما أنّ حضور السلطة التنفيذية في لجنة إنتخابات المجلس الأعلى لا يقتصر على الممثلين المباشرين بل إنّ بقيّة الأعضاء في أغلبهم هم من الممثلين غير المباشرين للسلطة التنفيذية إذ أنّها من تعيّنهم في وظائفهم منهم خاصّة المدير العام للمدرسة الوطنيّة للإدارة ومدير المعهد الأعلى للمحاماة.

كما تضمّ اللجنة المدير العام للمعهد الأعلى للقضاء ومدير عام مركز الدّارسات القانونيّة والقضائيّة فضلا عن عمداء كليات القانون الخمسة بتونس ومدير المعهد الأعلى للتصرف الذي تطرح عضويته تساؤلات حول جدواها وعلاقته بالقضاء وإنتخاباته وسبب إختيار المعهد الأعلى للتصرّف دون غيره من كليات الإقتصاد والتصرّف.

كما أسند مشروع القانون للجنة المذكورة صلاحيّة قبول الترشّحات لعضويّة أحد المجالس القضائيّة الثّلاثة من غير القضاة من المستقلّين والبتّ فيها و"ترتيبها ترتيبا تفاضليّا" دون إعتماد مقاييس واضحة ودقيقة تضمّن بسلّم تقييمي على غرار تجربة إختيار أعضاء هيئة الإنتخابات مانحا اللجنة المذكورة سلطات تقديريّة واسعة.

والغريب في أمر مشروع القانون المقترح أنّه لم يحل في باب الإنتخابات إلى نصوص ترتيبيّة ولم يمنح تأهيلا تشريعيّا لتنظيم تفاصيل الإنتخابات وإنّما تصدّى لمختلف جوانب العمليّة الإنتخابيّة مباشرة. والحال أنّه كان أحرى بواضعيه أن يخطّوا المبادئ الأهم لإنتخابات المجلس ويمنحوا تأهيلا تشريعيّا للجهة المنظّمة لضبط تفاصيل العمليّة الإنتخابيّة ذلك أنّ هذه العمليّة معقدّة وتتطلّب تنصيصا على أدقّ التفاصيل التي ليست من مجال القانون وإنّما من إختصاص السلطة الترتيبية بتأهيل تشريعي.

وقد كان واضعو مشروع القانون في غنى عن كلّ هذه التدابير وعن إحداث لجنة بتركيبة هجينة لا هي بالقضائيّة ولا الإداريّة لو تمّ التفكير في إسناد تنظيم إنتخابات المجلس الأعلى للقضاء إلى الهيئة المستقلّة للإنتخابات على غرار الإنتخابات التشريعيّة والرئاسيّة. ولهذا الحلّ مزايا عديدة من بينها إختصار الوقت وضمان النجاعة والفاعليّة والإستقلاليّة الكاملة باعتبار أنّ للهيئة تجربة في تنظيم إنتخابات أكثر تعقيدا من إنتخابات المجلس الأعلى للقضاء. ولها الإمكانيّات الكافية خاصّة وأنّ الإنتخابات القضائية لا تتزامن مع الإنتخابات التشريعية أو الرئاسية والبلدية من جهة، ومن جهة أخرى فإنّ القانون الأساسي المنظّم للهيئة المستقلّة للإنتخابات أسند لها إختصاصا مطلقا في تنظيم الإنتخابات حيث ينصّ الفصل الثالث من القانون الأساسي عدد 23 لسنة 2012 المتعلّق بإحداث هيئة الإنتخابات[1] على أنّها " تتولى الهيئة العليا المستقلة للانتخابات القيام بجميع العمليات المرتبطة بتنظيم الانتخابات و الاستفتاءات وإدارتها والإشراف عليها." فيمكن أن تشمل مهامها تنظيم إنتخابات المجلس الأعلى للقضاء خاصّة لما ينطوي عليه الأمر من رمزيّة حيث يؤشّر على نديّة السلطة القضائية للسلطتين التشريعية والتنفيذية باعتبار أنّ الهيئة المستقلّة للإنتخابات تتولّى تنظيم إنتخاب ممثّلي هذه السّلط الثلاث. كما من شأنه أن يقطع  مع كلّ وصاية وإرتباط بالسلطة التشريعية والتنفيذيّة منذ لحظات المخاض والولادة لضمانة إستقلالية هذه السلطة وإدارتها الذاتيّة أي المجلس الأعلى للقضاء. 

كما أنّ من شأن إسناد الإشراف على إنتخابات المجلس الأعلى للقضاء للهيئة المستقلّة للإنتخابات أن يضمن حسن إدارة النزاع الإنتخابي القضائي أمام المحكمة الإداريّة باعتبار خبرة الهيئة والحاجة إلى هيكل له إمكانيات وخبرة وخاصّة حياديّة لإدارة النزاع الإنتخابي أمام المحكمة الإداريّة كمدّعى عليه وهي ليست بالمسألة اليسيرة خصوصا وأنّ الرئيس الأول للمحكمة الإداريّة العليا عضو في اللجنة التي أحدثها مشروع القانون المعروض وفي نفس الوقت منحه نفس  القانون الإشراف على النزاع الإنتخابي القضائي وسلطة تعيين قضاياه في الدوائر بحيث يصحّ معه قول الشاعر: يا أعدَلَ النّاسِ إلاّ في مُعامَلَتي— فيكَ الخِصامُ وَأنتَ الخصْمُ وَالحكَمُ. 

ولعلّه من المجدي أيضا أن يكفي المشرّع نفسه مؤونة الخوض في تفاصيل تنظيم هذه الإنتخابات وأن ينصّ على المبادئ الكبرى لتنظيمها ويفوّض للهيئة المستقلّة للإنتخابات إتخّاذ القرارات التنظيمية للإنتخابات من الترشّح إلى التصريح النهائي بالنتائج على غرار ما تمّ بالنسبة للإنتخابات التشريعيّة والرئاسيّة لأنّ تنظيم إنتخابات ناجحة يستوجب عدم إهمال أيّ تفاصيل وهو ما قد تضيق عنه فصول القانون ويستدعي إعمال تقنية التفويض التشريعي. مع التأكيد على ضرورة أن يعلن مشروع القانون صراحة أنّ البتّ في ترشّحات المستقلّين من غير القضاة لعضويّة أحد المجالس القضائيّة الثّلاثة يكون وفقا لترتيب يحدّده مقياس تقييمي تسند فيه نقاط وفق معايير واضحة كالسنّ والأقدميّة والخبرة في الشأن القضائي وبعد تنظيم جلسات إستماع وجوبيّة متساوية من حيث الوقت لجميع المترشحين يقدّمون فيها سيرتهم الذاتيّة وبرامجهم وذلك للحدّ من السلطة التقديريّة للهيئة في إختيار الأعضاء من غير القضاة.

أمّا بالنسبة لإدارة نزاعات الإنتخابات القضائيّة، فقد كان المشروع في مجمله مقبولا بمنحه إختصاص البتّ في تلك النزاعات للمحكمة الإداريّة التي نجحت في إدارة النزاع الإنتخابي سنتي [2]2011 و[3]2014 رغم ضيق الوقت وقلّة الإمكانيّات. غير أنّه يتّجه تعديل الإختصاص في البتّ في هذه النزاعات لتتعهّد به الدوائر الإستئنافيّة إبتدائيّا (المحاكم الإستئنافية في ظل التنظيم الجديد للقضاء الإداري) والجلسة العامّة القضائيّة (المحكمة الإدارية العليا في ظل التنظيم الجديد للقضاء الإداري)  إستئنافيّا كما هو الحال في نزاعات الإنتخابات التشريعيّة والرئاسيّة لخبرة قضاة الدوائر الإستئنافيّة خاصّة في المجال الإنتخابي ولضمان عدم التضارب بين مواقف الدوائر الإستئنافيّة وتوحيد الإجتهادات القضائيّة. وكانت تجربة نزاعات الترشح للإنتخابات التشريعية التي تعهّدت بها المحاكم الإبتدائية العدلية إبتدائيا والدوائر الإستئنافيّة للمحكمة الإداريّة  إستئنافيّا قد كشفت إمكانيّة حدوث تضارب بين مواقف الهيئات القضائيّة بخصوص نفس المسألة (تحديد صفة الناخب). وكان من أهم توصيات المحكمة الإدارية نفسها تشريك الجلسة العامة القضائية لتوحيد الإجتهادات القضائيّة.

ولعلّه من المتّجه كذلك  تمديد آجال تعهّد المحكمة بالنزاعات الإنتخابيّة القضائيّة لضمان حسن سير هذه النزاعات، ذلك أنّ أجل يومين لتعيين جلسة مرافعة وثلاثة أيام للتصريح بالحكم يفرض ضغطا كبيرا على المحكمة لإحترامه بالنظر لمحدودية الإمكانيات البشرية والمادية. وإقترح عديد القانونيين من داخل المحكمة وخارجها إعادة النظر في هذه الآجال خاصّة وأنّ أغلب الأنظمة القانونية المقارنة  تحدّد آجالا معقولة أكثر للبتّ في النزاعات الإنتخابيّة.

ويتبيّن بذلك أنّ باب إنتخابات المجلس الأعلى للقضاء في مشروع قانون وزارة العدل المذكور يتطلّب مراجعة جذريّة تفرضها الإعتبارات الموضوعيّة والقانونيّة السالف بسطها حتّى يكون المجلس الوليد في حجم تطلّعات القضاة والحقوقيين والتونسيين عامّة ويبدأ عهد الإدارة الذاتيّة للقضاء بتونس على أسس سليمة منذ إنتخابات المجلس الأعلى للقضاء الذي حمّله دستور 2014 مسؤوليّة جسيمة هي "ضمان حسن سير القضاء وإحترام إستقلاله"[4].
 


[1] قانون أساسي عدد 23لسنة 2012مؤرخ في 20ديسمبر 2012يتعلق بالهيئة العليا المستقلة للانتخابات.
[2]إنتخابات المجلس الوطني التأسيسي أكتوبر 2011.
[3] الإنتخابات التشريعية أكتوبر 2014 والرئاسية بدورتيها نوفمبر وديسمبر 2014.
[4] الفصل 114 من دستور 26 جانفي 2014 :  يضمن المجلس الأعلى للقضاء حسن سير القضاء واحترام استقلاله. وتقترح الجلسة العامة للمجالس القضائية الثلاثة الإصلاحات، وتبدي الرأي في مقترحات ومشاريع القوانين المتعلقة بالقضاء التي تعرض عليها وجوبا، ويبتّ كل من المجالس الثلاثة في المسار المهني للقضاة وفي التأديب".
انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد القضائي ، تونس



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني